محمد الطوس "أبو شادي" يبعث من جديد بعد أربعين سنة

وليد الهودلي
كان من السهل أن تسير في ركابه في سجن جنيد في دورة الفورة الصباحية والمسائية، تسعينيات القرن الماضي، تجد نفسك في فلك رجل يمثّل روحاً ثائرة، وأصلاً من الأصول الفلسطينية الراسخة رسوخ الجبال، تجد من يمدّك من روحه روحاً عالية، فتحلّق بعيداً في سماء جبل الخليل، الذي انطلق منه يوماً فدائياً، يمنح روحه طواعية، ويضعها على كفّه مستعداً للبذل والتضحية بها بكل يسر وسهولة، تجد نفسك أمام سرد جميل وأفق واسع وجناح منخفض، بتواضع جميل ومشاعر جيّاشة يهتزّ لها قلبك، فيستأنس ويجد ملاذاً طيباً يسعد روحك، رغم أنف السجن والسجّان اللئيم. كان واحة رخية طيبة سخية، تظلّك وتتحف قلبك.
ثم وجدته هناك، في عسقلان، حادياً للمسيرة ومضيافاً كريماً لكل من يلوذ جواره، وينشد راحة وأنساً وودّا وأخوّة صافية نقيّة. ولم تكن له كرّ السنين البطيء في السجن مدعاة للنيل من روحه العالية، ولا قيد أنملة، بل بالعكس كانت تزيده إصراراً وتشبثاً بما نذر حياته من أجله.
أربعون سنة، لم يترك فيها سجناً "يعتب عليه"، ينثر من روحه عطراً وألقاً وجمالاً لكلّ من يلتقيه أو ينظر إليه، قطعة من فلسطين العظيمة تشعرك بشذاها الطيّب، وتملأ وجدانك من حلاوة روحها، تسير على قدمين فلا تغيب عنها بكلّ تفاصيلها العظيمة، جبلت روحه بروحها، فكان لها مرآة، وكانت له من روحها معطاءة. أربعون سنة ما انفك عن فلسطين، وما انفكّت عنه فلسطين. كيف ثبت على هذا التلازم العظيم، وكيف استمرّ على ذلك أربعين سنة؟!
لم تفلح معه معاولهم، ولم تصب مخالب أحقادهم من اضعاف عنفوانه، بل بقي صقراً شامخاً، ولم تلن له أية قناة. وكانت الأيام الصعبة ما بعد السابع من أكتوبر، حيث صبّ السجان عليه كل صنوف العذاب، فكان لإخوانه في هذا السنّ يمثّل عنفواناً للصبر والثبات والتحدّي، بكل ما يفيض صدره من معنويات عالية، ترفع همم الشباب وتزيدهم قوة وصلابة.
تلقى خبر وفاة رفيقة دربه، صعق الخبر روحه، وضرب أعماق قلبه، ومع هذا كانت فلسطين حاضرة، وكان الثبات ديدنه، تخرج له روحه أن فلسطين تستحق الغالي والنفيس من التضحيات العزيزة الغالية.
أيها الأخوة الكرام، نحن نتحدّث عن أربعين خريفاً وأربعين شتاء وأربعين صيفاً وأربعين ربيعاً، لم ير فيها علامات الربيع، أربعين رمضاناً، لم يحضر أحد من عائلته أي إفطار من افطاراته، ثمانين عيداً بفطره وأضحاه، لم يشهد فيها زيارة رحم أو منارة مسجد، أطفاله بلغوا الرشد وتزوّجوا وصار له أحفاد، وهو هناك جبل صابر لم تفتر له عزيمة، ولم يرفّ له جفن، ولم يهتزّ قلبه إلا بما يثبت إصراره على حبّه لقدسه وأقصاه وفلسطين.
إنّها أربعين سنة، وليست أربعين يوماً أو شهراً. أربعون سنة يا قوم كم تزن عند ربّ هذا الكون؟!