ماذا تعرف عن زمنك الفردي؟
فراس عبيد
تبلورتْ حقيقة جديدة في وعيي قبل بضعة أيام، تبلورا دقيقا ومفاجئا، وعشتُ حالة من الاندهاش البسيط المحبّب جرّاء انكشافها لي في هذا التوقيت الغريب أو بالأحرى الصحيح بالنسبة لي.
إنها حقيقة وجود زمن فردي لكلّ إنسان، يختلف عن زمن أيّ إنسان غيره حتى لو تقاطع الزَمنان أحيانا. وعلى بساطة تلك الحقيقة فإنها لا تخلو من تشابكات وتفرّعات مثيرة للتحليل وللإفادة.
ما هو زمني الفردي أنا الإنسان فلان أو فلانة؟
فلننظر إلى الجدول الطريف التالي:
في عصر يوم الجمعه الحالي سيكون (مصطفى) في المسبح، بينما سيكون صديقه (ماجد) في زيارة عائلية.
في صباح يوم الجمعه الحالي ستقوم (سهام) بعملية تنظيف شاملة للمنزل، بينما ستكون صديقتها (لمى) في رحلة بحرية بعيدة مع الأصدقاء.
في صباح السبت الحالي سيتصل مصطفى بماجد يعرض عليه الذهاب إلى (كافيه الورد والليمون) وهو الكافيه المفضل الأول لديهما، فيرحّب ماجد بالفكرة ويذهبان. في مساء السبت نفسه سيتصل مصطفى بماجد ليفصح له عن رغبته في الذهاب إلى (كافيه الفن الراقي) وهو الكافيه المفضل الثاني لديهما، سيعتذر ماجد لرغبته في التنزه سيرا على الأقدام عوض الجلوس في كافيه، فيجلس مصطفى في الكافيه بمفرده ويستمتع ماجد بالسير على قدميه.
في صباح السبت الحالي ستحتسي سهام ولمى الشاي الأخضر وتتناولان معه قطعا من كعكة الشوكولاته في حديقة بيت سهام. في مساء السبت نفسه ستتصل لمى بسهام للذهاب معها إلى السوق من أجل مساعدتها في البحث عن فستان يليق بسهرة قريبة، تعتذر سهام بأن لديها حصة يوغا لا يمكنها التفريط فيها، تذهب لمى للتسوق وحدها وتندمج سهام في حصة اليوغا المقررة.
من ذلك الجدول الواقعي جدا نستنبط وجود قاعدتين في اجتماع إنسانين معا، الأولى قاعدة وفاق زمني، والثانية قاعدة تعارض زمني، والثانية هي ما نحن بصدد فهمه وتحليله.
فإن الفعل الذي يناسب مصطفى في الساعة الثالثة عصرا قد لا يناسب صديقه ماجد في الساعة الثالثة عصرا من اليوم نفسه، وإن الفعل الذي يسعد مصطفى في يوم الأربعاء قد لا يسعد صديقه ماجد في يوم الأربعاء نفسه، وإن الفعل الذي يهمّ مصطفى فعله في صباح الإثنين قد لا يهم صديقه ماجد في صباح الإثنين نفسه، وإن الفعل الذي يريد مصطفى أن يفعله بشوق وبشدة مساء الخميس لا يعدو أن يكون فعلا غير مرغوب فيه من صديقه ماجد في مساء الخميس نفسه. كذلك الحال مع سهام وصديقتها لمى ومع جميع الناس.
ومن تلك الأحوال الفريدة السابقة سنلتقط حِكَما وفلسفة، تُرى ما هي؟
أولا.. إنه لا ينبغي أن أربط مصيري أو توقيتي بمصير غيري وتوقيته، لأن القانون الكوني والطبيعي نفسه يرفض التطابق التام في أزمنة الأشخاص، فالبشر ليسوا نسخا متطابقة تطابقا تاما في التفكير والمشاعر والظروف والميول ونوع المسؤوليات والأقدار.
ثانيا.. إنه من الحكمة ان أعرف نفسي فأعرف ما الذي ينبغي عليّ فعله في هذا اليوم، دون تقليد فلان لأنه صديقي أو قريبي.
ثالثا.. إنه ينبغي لي أن أحدّد بدقة مفهوم السرور لديّ، لأنّه مفهوم مختلف من شخص لآخر. فإذا كان السرور بالنسبة للآنسة (ابتسام) هو في ممارسة رياضة الركض الصباحي فإنه بالنسبة للآنسة (رشا) في تدخين الأرجيلة (أنا ضد التدخين عموما).
رابعا.. يغطّي مفهومُ تعارضِ أزمنة الأفراد نطاقا زمنيا واسعا في بعض الأحيان (أسبوع، شهر، عام، أكثر) فإذا كان من الضروري لياسر أن يلازم البيت طيلة أسبوع كامل أو شهر كامل بعد انتهاء دوامه في الظهيرة لنيل الراحة الجسمية والنفسية القصوى اللازمتين له، فإن من الضروري لصديقه بهاء أن يرفّه عن نفسه ترفيها لازما طيلة الأسبوع الكامل نفسه أو الشهر الكامل نفسه بعد انتهاء دوامه في الظهيرة بأن يذهب إلى نادي اللياقة البدنية.
خامسا.. في حال وصول الفرد إلى مرحلة متقدمة في مصادقة ذاته وتقديسه للحياة، فإنه سيشكّل يومه على النحو الذي يشاء، مثلما يشكّل الخباز كرة العجين بين أصابعه، أي وفق رغباته واحتياجاته وتصوراته وشغف نفسه، بعيدا عن رغبات الآخرين واحتياجاتهم وتصوراتهم وشغفهم، إلا ما توافق لاثنين طوعا ومحبة واحتياجا.
ولذلك.. سيعيش هذا الفرد ذو الوعي المتقدم حالا عميقا من الرضى والمتعة البهيجة - نتيجة ما قام ويقوم به من تشكيل فردي إبداعي حرّ لزمنه اليومي - ، وهي حال ستزداد رسوخا لديه بينما هو يستكشف - لحظيا ويوميا - عالَمَ ذاته، وبينما هو يستطلع خصوصياتها وجوانبها الفَرِدة، بعيدا عن توجهات الآخرين ورغباتهم ومؤثراتهم إلا ما وافق هوى أو احتياجا لديه.
سادسا.. إنه على الإنسان أن يحذر الوقوع في فخّ ممارسة أفعال لا تفيده، ولا تشبعه في العمق، ولا تعبّر عن ذاته الحقيقية.. إنما هو يفعلها لمجرد الاعتياد، أو تقليدا للآخرين أو للقطيع.
فإذا شاهدتَ مجموعة من الناس تتمشى في الطرقات ساعة عَصْر في جوّ مثالي للتنزه يوم الإثنين، فلا يعني ذلك أن هذا هو الوقت المثالي بالنسبة لك للتنزّه مثلهم فتهبّ من فورك كالأسد للتنزّه بالقرب منهم. مع أنّ اللازم لك وفق زمنك الفردي في ساعة العصر تلك من يوم الإثنين نفسه هو فقط أن تجلس في بيتك بهدوء!
بلغة مكثفة.. بينما هذا الشابّ يقرأ ينبغي لذاك الشابّ أن يأكل، وبينما هذه الشابّة تسبح ينبغي لتلك الشابّة أن تقصّ شعرها وتضع طلاء الأظافر الوردي عليها، وبينما هذا الرجل يقود سيارته ينبغي لذاك الرجل أن يصلح مصباح المطبخ المعطل، وبينما هذه المرأة تطبخ ينبغي لتلك المرأة أن تتحدث عن بعض الناس بخير أو بسوء، وبينما هذا الزوج يشتري رطلا من البصل ينبغي لذاك الزوج أن يدهن حذاءه باللون البني، الخ ..
الذكيّ والذكية.. هو هي مَن احتَضن زمنه، لا مَن احتَضن زمن غيره!
إنك لن تكتشفَ مَن أنت حقا، ولن تقومَ بالدور الكبير المرسوم لك في الكون، إلا بالتفاتك الدائم لزمنك الفردي، والتزامك الفعليّ بتطبيق ما يمليه عليك من أفعال تُمثلك أنت.
إنّ زمنَك الفردي ليسَ سوى الأصواتِ الداخلية الموجِّهة الصادرةِ عن ذاتك العليا وجسمك المادي، وهي الأصوات المُناط بها رعاية تجربتك على الأرض، وحمايتها، وإتمامها على النحو الأمثل الخاصّ بك أنت تحديدا، باعتبارك بصمة روحية كونية فرِدة غير مطابقة لأحد.
فاطمئن، وقرّ عينا، ولا تحزن.. عندما ترى غيرَك يسافر إلى تركيا للترفيه، أو تراه يقهقه بسرور في مقهى وبيده كوب قهوة فاخرة، أو تراه يجالس زوجته وربما صديقته في حديقة عامة، أو تراه يقود سيارة جديدة تماما، أو تراه يحقق نجاحا لافتا وربما شهرة كبيرة.. كلّ ما في الأمر أنّ ما يحدث مع هؤلاء إنما يحدث لأنه أوانُ تحقّقه بالنسبة لأزمنتهم، أمّا أوانُ تحقّقه بالنسبة لك فإنه لم يَحِنْ، بعدُ، وفق زمنِك!
وحانتْ لك أفعال أخرى، تناسب زمنك أنت، عليك السير فيها. فافهمْ وارْضَ.
ولاحقا! سينكتب في زمنِك الفردي السفرُ الترفيهي، والقهوةُ الفاخرةُ، ومجالسة الأنثى البهيجة، والسيارةُ الجديدة.. في هذا الكون عظيم الحِكمة، عالي الدِقّة!
الزمن الفردي للإنسان زمن استكشافي إبداعي مُضادّ بامتياز للعادةِ، وللتقليدِ، ولسلوكِ القطيع.