قهوة الصباح في زمن الحرب

سبتمبر 3, 2024 - 09:30
قهوة الصباح في زمن الحرب

حمزة البشتاوي

ينشر المحتلون صناع الخراب وتدمير الذكريات في غزة رائحة البارود والدم المحترق ومذاق العدم، الذي يحاول التغلب على رائحة ومذاق القهوة ونكهتها المضادة للحرب والخوف، إضافة لمساهمتها في تحسين المزاج.

وترتبط القهوة عند أهل غزة باللهفة والشغف في الجلسات الخاصة والعامة، والحاجة إلى المنبهات من أجل المزيد من التركيز والسهر الصاخب بالأحلام ، لكن أهل غزة اليوم يشتاقون إلى القهوة كي يشحنوا قلوبهم وعقولهم بقهوة مرة صامتة وساحرة، ولا يحتاجون إلى المنبهات بسبب القصف المستمر ودوي القذائف والصواريخ والرصاص وصرخات الضحايا، طيلة الليل والنهار، إضافة لانقطاع الكهرباء، وشح المياه الصالحة للشرب، ومعاناة البقاء في الخيام ومراكز الإيواء.

ينتظر أهالي غزة قهوة الصباح بصبر مالح وعنيد يشبه انتظارهم لحظة انتهاء الحرب، ليعودوا إلى شاطئ البحر، ويستمعوا إلى فيروز تغني: بالقهوة البحرية وطالع بإيديك، وتشرب من فنجانك، وأشرب من عينيك، وتعود النكهة والسكينة إلى صباحات الناس في المنازل والأحياء والشوارع والمقاهي والمخيمات.

وأهل غزة الذين كانوا في الماضي يدللون الشاي بإضافة القليل من الميرامية والنعناع، أصبحوا اليوم أكثر إقبالاً على احتساء القهوة في زمن التوتر الدامي واشتداد الحرب والحصار.

وقد أخبرني الكاتب محمد إسماعيل في غزة، والذي كان يتردد إلى محل شركة (ديليس) لبيع القهوة، خاصة أنواعها المعروفة باسم (أرابيكا) أي القهوة العربية أو (روبستا) وهي من أقوى النكهات، وكان يحتسيها مع الشاعر الشهيد سليم النفار الذي كان ماهراً في صناعة القهوة بيديه معتقداً، كما قال الشاعر محمود درويش، بأن تحريك القهوة ببكرجها من اليمين إلى اليسار، ثم من اليسار إلى اليمين متساوية ببطء وعناية قبل أن تفور وتغلي يكسب القهوة نكهة لا تضاهى.

ويقول محمد إسماعيل إن مرارة القهوة هي أقل بكثير من مرارات الواقع الذي يعيشه الناس في غزة بسبب الحرب، وأن القهوة ما زالت رغم صعوبة الحصول عليها تشكل مفتاح الصباح، وسلاحاً قادراً على تعديل المزاج بطعمها الأصيل، ومذاقها الرائع، ونكهتها الفريدة والجميلة التي تساعد على الدخول في أحلام جديدة بذاكرة طازجة تؤكد على التمسك بالحياة ،وعدم التنازل عن طقوس احتساء قهوة الصباح لمن استطاع الحصول عليها بعد فقدانها، ووصول سعر الكيلو الواحد منها أحياناً إلى 200 دولار، بعد أن كان ثمن الكيلو منها قبل الحرب لا يتجاوز العشرة دولارات.

يذكر أن غزة كانت قبل الحرب تستهلك حوالي سبعة أطنان من القهوة يومياً، وتستورد نحو 2500 طن من حبوب القهوة سنوياً، ويتم تقديمها في الأفراح والأتراح، وفي المقاهي وعلى البسطات في الطرقات، حيث كان الشباب يجلسون حولها يتأملون تحقيق الكثير من الأشياء، ومنها المصالحة الفلسطينية التي أصبحت بفعل الأداء السياسي تشبه الغول والعنقاء والخل الوفي.

وفي غزة اليوم، ورغم عدم خذلان الدول المنتجة للقهوة كاليمن وكولومبيا والبرازيل يتساوى تحدي الحصول على الطعام، مع تحدي الحصول على القهوة التي يصعب على الكثيرين الاستغناء عنها وعن رائحتها وهي تطهى على نار الحطب، بسبب فقدان الغاز خاصة حين تفوح تلك الرائحة من الخيام ومراكز الإيواء ونوافذها المليئة بالأحلام والآمال المعقودة على الشباب، ومنهم الشاب الأسمر من سرايا القدس الذي ظهر في فيديو يحتسي قهوة الصباح بيد وباليد الثانية يطلق قذائف الهاون على جنود وآليات الاحتلال بمزاج عالٍ في قلب الميدان الذي تكتب فيه حكايات الصمود الفلسطيني وكوابيس الغزاة.

مرارة القهوة هي أقل بكثير من مرارات الواقع الذي يعيشه الناس في غزة بسبب الحرب، وأن القهوة ما زالت رغم صعوبة الحصول عليها تشكل مفتاح الصباح، وسلاحاً قادراً على تعديل المزاج.