التطوير والتجديد بين تناقض المفاهيم والمقاصد والأهداف والمسؤولية الوطنية

يونيو 26, 2024 - 10:35
التطوير والتجديد بين تناقض المفاهيم والمقاصد والأهداف والمسؤولية الوطنية

مروان أميل طوباسي

مثل عبارات وكلمات أُخرى، هناك دائما مفاهيم وتفسيرات مختلفة لها، بل وتناقض فيما يُقصد من محتواها والهدف الحقيقي منها، وهذا ينطبق على الفرق بين دعوات الإصلاح والتجديد في النظام السياسي الفلسطيني الصادرة من قوى الغرب الاستعماري وأعوانهم التي تحاول فرض رؤيتها لتحقق مصالحها بذلك وتقويض القرار الفلسطيني المستقل، وبين الرؤى الوطنية الفلسطينية الصادرة من صميم الحرص الوطني، بهدف تطوير الأداء وتمكين دور منظمة التحرير الفلسطينية.


إن منظمة التحرير الفلسطينية والنظام السياسي الفلسطيني يواجهان بشكل عام ضغوطات متزايدة للإصلاح والتجديد من قبل الولايات المتحدة وبعض العواصم الغربية في الإتحاد الأوروبي، إضافة إلى بعض العواصم الإقليمية في شرقنا الأوسط. هذه الدعوات تأتي في سياق مختلف تماما عن الدعوات التي تصدر عن فئات واسعة من الشعب الفلسطيني وكوادره الوطنية المجربة عبر عقود الكفاح ضد الاحتلال. يهدف هذا المقال إلى تحليل الفروق الجوهرية بين هذه الدعوات من حيث الأهداف والمضامين والمقاصد، مع التركيز على الأهداف والسياق السياسي الذي يحيط بكل منها.

في السياق الغربي والإقليمي

دعوات القوى الغربية وبعض عواصم الإقليم للإصلاح والتجديد في النظام السياسي الفلسطيني ترتبط بمصالح سياسية واستراتيجية تتعلق بالاستقرار الإقليمي والأمن من وجهة نظرهم وضمان استمرار دورهم. فالولايات المتحدة وبعض العواصم الأوروبية والإقليمية تدعو إلى تحديث وتجديد قيادة فلسطينية يمكن تطويعها بشكل كامل لتسهيل التفاوض بفاعلية أكبر في عملية سلام مع إسرائيل، دون أن تحقق إنهاء الأحتلال، بل تحقيق ما يعتبرونه "حلاً مستداماً" للنزاع بهدف حقيقي غير معلن يتعلق بالاستحواذ السياسي على قرار المنظمة للوصول إلى حلول اقتصادية وأمنية تخدم رؤية الشرق الاوسط الجديد والمسار الإبراهيمي وتفوق إسرائيل.


وبالعادة تكون أهداف هذه الدعوات مرتكزة على استغلال عدد من العناوين البراقة المتمثلة في: أولاً، تعزيز الشفافية والمساءلة من وجهة نظرهم في إدارة الشؤون الفلسطينية لضمان استخدام المساعدات المالية بشكل فعال ومكافحة الفساد. ثانياً، تحديث الهياكل الإدارية في منظمة التحرير الفلسطينية، وفي السلطة الوطنية الفلسطينية لتكون أكثر فعالية واستجابة للمتغيرات السياسية. ثالثاً، تعزيز دور وهيكلية الأجهزة الأمنية الفلسطينية لتكون قادرة على الحفاظ على النظام والاستقرار الداخلي ومواجهة التحديات الأمنية.

في السياق الفلسطيني الداخلي

في المقابل، تنبع دعوات الإصلاح والتجديد والاستنهاض من داخل المجتمع الفلسطيني من تجربة طويلة من الإحباط والمعاناة الناجمة عن المتغيرات الدولية، وآثار ما سمي "الربيع العربي" وجرائم الاحتلال الإسرائيلي، وتداعيات اتفاق أوسلو نفسه الذي أعلنت حكومة الاحتلال أنها في حلٍ من اتفاقياته وملحقاته، والانقسامات الداخلية وتحديدا بعد أحداث الانقلاب في غزة، ومن ثم تغييب الانتخابات العامة، وما يجري اليوم من تطهير عرقي في غزة ومحاولات تنفيذ مشروع الحسم المبكر بالضفة والقدس، أي تكامل تنفيذ المشروع الصهيوني التوراتي، إضافة إلى غياب أو شبه غياب انعقاد الهيئات العليا للمنظمة أو محدوديتها.


تتمحور هذه الدعوات الوطنية الصادقة التي يتوجب فهمها بدواعي الحرص حول الحاجة إلى تحقيق تغيير حقيقي ينعكس إيجابا على حياة كل الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية بما يمكنه من إنهاء الاحتلال أولاً، والوصول إلى كافة الحقوق السياسية المشروعة، وفي المقدمة منها الحق في تقرير المصير وتجسيد إقامة الدولة ذات السيادة، حيث تتضمن الأهداف الرئيسية لهذه الدعوات:


أولاً، تنفيذ مقررات المجالس المركزية المتعاقبة وإعادة صياغة العلاقة مع الاحتلال وفق ذلك، وإنهاء الانقسام بين الفصائل الفلسطينية في إطار منظمة التحرير، وبالأخص بين حركتي فتح وحماس التي طالت جولاتها دون نتائج أو تنفيذ توصياتها، وتوحيد الجهود الوطنية لتحقيق أهداف مرحلة التحرر الوطني من خلال مشاركة كافة أطراف العمل الوطني برؤية وبرنامج وأدوات واضحة متفق عليها، بما في ذلك أساليب المقاومة، وقرارات السلم والحرب، والمفاوضات، وإدارة الحياة اليومية، وأشكال الصمود، وإلى الحاجة لمعالجة ومواجهة تحديات وتداعيات حرب الإبادة في غزة بإرادة وطنية موحدة تقودها منظمة التحرير.


ثانياً، إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية لتشمل جميع الفصائل والقوى السياسية والمجتمعية، إضافة إلى الوطنيين المستقلين، بما في ذلك قطاع الشباب، واستنهاض دورها وفق البرنامج السياسي للمنظمة، وضمان تمثيل حقيقي للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده من خلال الأدوات الديمقراطية المتاحة.


ثالثاً، ضمان توزيع عادل للموارد والمساعدات، والعمل على تقليل الفجوات الاقتصادية والاجتماعية داخل المجتمع الفلسطيني، بعيداً عن الاحتكار والاستئثار بالمقدرات والموارد والقرار.


رابعاً، تطوير استراتيجيات جديدة للمقاومة الشعبية ضد الاحتلال الإسرائيلي تتسم بالوحدة والفاعلية والمشاركة الجماهيرية الواسعة، ولنا في هذا الصدد تجربة انتفاضة الحجارة الكبرى وما سبق ذلك من سنوات الكفاح ضد الاحتلال.


خامساً، بناء رؤية سياسية فلسطينية مستقلة تستند إلى الحقوق الوطنية الثابتة وتلبي تطلعات الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال الوطني، بعيداً عن محاولات مصادرة القرار الفلسطيني أو الهيمنة من أي طرف، والابتعاد عن ما بات معروفا بالسراب الأمريكي بإدارة الأزمات دون حلها.


سادساً، ترسيخ كل أشكال العمل الديمقراطي، وتوسيع المشاركة في اتخاذ القرار وفق أسس من العدالة التي تضمن ممارسة شعبنا واجباته وحقوقه كاملة دون تغييبها تحت مبررات مختلفة.

الدفاع عن وحدانية تمثيل المنظمة من خلال تفعيلها وتطوير أدائها

إن شعبنا الذي دافع عن منظمة التحرير في كل المعارك السابقة وعمل على بناء نظام سياسي، يحتاج هذه المرة أيضاً إلى أن يدافع عنها من خلال تفعليها واستنهاضها وتمكينها، لتأكيد استمرار مكانتها التمثيلية الوحيدة لشعبنا أولاً، وكعنوان كفاحي في مرحلة تحررنا الوطني لدحر الاحتلال ثانيا، وذلك بالارتقاء بدورها وتوسيع قاعدة المشاركة فيها من أجل تمكينها من قطع الطريق على التدخلات الأمريكية الإسرائيلية ومن ينفذون أجنداتهم في المنطقة أو من بعض الجهات الإقليمية وعواصمها وقوى الدين السياسي، التي تحاول تعميق تجويف الشرعيات الفلسطينية تحت شعارات الإصلاح لمنظمة التحرير وللنظام السياسي الفلسطيني.


إن المطالبة من خلال دعوات وطنية متعددة تصدر عن فئات مختلفة من شعبنا صاحب الشأن والحق الحصري الوحيد بتجديد حيوية نظامنا السياسي بالأشكال الديمقراطية التي نصت عليها الأنظمة ذات الصلة ومنها نصوص وثيقة إعلان الاستقلال وتكريس مفهوم الشعب كمصدر للسلطات، وتعزيز دور منظمة التحرير كجبهة وطنية عريضة هو أمر وطني محق، ويأتي في سياق الحاجة الملحة لتعزيز الوحدة الوطنية لكافة أبناء شعبنا وفئاته، خاصة الشباب منه ومكانة التمثيل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني المتمثل بها، وليس في إطار البحث عن بديل آخر أو القبول بأي شكل من الوصاية عليها من أي كان، فذلك أمر لا يقبل به أي وطني فلسطيني، خاصة بعد أن خاص شعبنا معارك الدفاع عن القرار الوطني المستقل.

ضرورات المراجعة وتقييم السياسات

ولأن المتغيرات متسارعة والزمن لا ينتظر أحدا ولأن الطبيعة لا تقبل الفراغ، يتوجب اليوم التحلي بالمسؤولية الوطنية وبالجرأة الأخلاقية السياسية لمراجعة شاملة وممارسة نقد ذاتي بَنّاء داخل حركة فتح تحديداً، وكل قوى العمل الوطني الأخرى التي تعاني أشكال من الأزمات بهدف استنهاض دورها الوطني ومكانتها لتمكينها من مواجهة مخاطر التحديات الجارية، وكذلك في مؤسسات مجتمعنا الأهلي، وإتاحة المجال لتعددية الآراء الموضوعية الوطنية، دون خوف منها نحو الوصول إلى أكبر قدر من التوافق الوطني الممكن.


باعتقادي هذا يهدف إلى تبادل الآراء المخلصة لتعزيز الأدوار والبرامج والأدوات وتكامل المسؤوليات للارتقاء بأشكال النضال الوطني، والبناء الديمقراطي، وتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني، والتخلص من مسببات التراجع والخمول أو الارتهان لأجندات لا تلبي ضرورة إنهاء الاحتلال الذي يتوجب أن يتم من خلال رفع كلفته ومقاومته السياسية والشعبية والدبلوماسية، وفق الظروف المتاحة التي تضمن صمود شعبنا وحمايته والبناء على عزلة دولة الاحتلال دوليا، وحالة الاستنهاض الشعبي العالمي من التضامن ودعوات مقاطعة إسرائيل، والعمل على قاعدة وحدة الشعب والأرض والقضية تحديدا في حماية غزة التي لن يبتلعها البحر رغم جعل الاحتلال لها مكانا غير قابل للحياة، إلى جانب مخيماتنا وقرانا ومدننا في كل فلسطين، وفي المقدمة منها القدس التي تتعرض للتطهير العرقي ومحاولات فرض التهجير، خاصة بعد طرح سموتريتش خطته لضم "دولة يهودا"، كجزء من إسرائيل الكبرى وفق رؤيتهم التي يعملون على تنفيذها منذ زمن طويل أمام صمت العالم.

مفهوم الدولة والتفكير خارج الصندوق

إن التوافق الوطني على أهمية العمل لإسقاط كافة محاولات تفريغ مفهوم الدولة من مضمونها وشكلها الذي يتعارض مع القانون الدولي ومبادئ تعريف الدول وحقوقنا أساسا التي تحاول الولايات المتحدة تسويقها، أو خطر استبدالها بكيانين منفصلين في الضفة وغزة وفق تصورات أمريكية أوروبية اسرائيلية قديمة جديدة لتصفية القضية الوطنية لشعبنا، يتسم بأهمية وخطورة مطلقة اليوم، وما يتضمن ذلك من ضرورة رفضه ومنع استمرار مبررات الانقسام الذي يجب أن يجد حلاً خلّاقا خارج الصندوق الذي لم يصل بنا لنتائج، رغم كل جلسات الحوار فتجارب الشعوب والدول غنية في هذا الصدد. وكذلك رفض الحلول الأمنية والاقتصادية البديلة عن الحق الوطني السياسي والتاريخي لشعبنا المتمثل أساساً في حق تقرير المصير وإقامة دولتنا الديمقراطية المستقلة ذات السيادة على كامل الأراضي المحتلة وعاصمتها القدس الشرقية، وإسقاط نظام الأبرتهايد الاستعماري الذي يرتبط بمضمون الحركة الصهيونية وحل قضية اللاجيئن. ولذلك بات من الضرورة بمكان ووفق القرارات الوطنية السابقة البدء في إجراءات عملية للانتقال من شكل السلطة الوطنية إلى تجسيد مفهوم وشكل ومضمون الدولة تحت الاحتلال، واتخاذ ما يلزم من إجراءات بهذا الخصوص.


لذا، فإنه يمكن بوضوح ملاحظة أن الفروقات الجوهرية بين تلك الدعوات الغربية والإقليمية والدعوات الوطنية التي تركز على جوهر الجوانب السياسية الوطنية والاجتماعية والاقتصادية لتحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني وحقوقه. هذا التباين يعكس اختلافات جوهرية في الأهداف والمضامين والمقاصد، حيث تسعى القوى الخارجية إلى تحقيق رؤيتها الاستراتيجية بما تدّعيه من استقرار يخدم مصالحها الاستراتيجية على حساب حقوق وحريات شعبنا، في حين يسعى أبناء شعبنا إلى تحقيق تغيير حقيقي يعكس إرادتهم الوطنية ويستجيب لمطالبهم المشروعة بتطوير قدرات منظمة التحرير، وتثبيت دورها ومكانتها في ظل محاولات الاستعمار الصهيوأمريكي إيجاد البدائل غير الوطنية ليس فقط في غزة، بل في كل فلسطين بالتكامل مع الضغوطات واقتحام المخيمات والقرى والمدن والحصار المالي المفروض على السلطة، والعمل بذلك على استنهاض الحركة الوطنية صاحبة التاريخ والكفاح والتضحيات.

انعقاد المجلس الوطني ومؤتمرات القوى والفصائل

لقد أصبحت الحاجة اليوم مُلحة لدعوة المجلس الوطني الفلسطيني، أعلى هيئات منظمة التحرير، للانعقاد في أقرب وقت ممكن، حتى ولو كان ذلك قد أصبح متأخراً للوقوف على خطورة الأحداث والمستجدات وصياغة السياسات العامة المتعلقة بكافة قضايا شعبنا أينما كان، ولتحديد موعد الانتخابات العامة بعد اليوم التالي لحرب الإبادة التي تكلف الاحتلال نفسه خسائر في كافة القطاعات وتُدخلهُ في أزمات عميقة، ولكي لا يكون هناك مبرر لدعوات عقد مؤتمرات وطنية رغم أنها لا تسعى لأن تشكل بديلاً. وهناك ضرورة لعقد مؤتمر "فتح" على قاعدة صفحة جديدة تتضمن الوحدة والديمقراطية التنظيمية، وقانون المحبة، وبالشكل الذي يمكن إنجاحه، لاستنهاضها كعمود فقري مفترض لكل الحركة الوطنية ولاستعادة دورها في ذلك بالشراكة مع الكل الوطني ومكونات المجتمع الفلسطيني.


فالمنظمة هي من حافظ على نهج العمل الوطني الثوري ببعده الإنساني التقدمي وثقافتنا المتعددة والمنسجمة في اَن واحد، وعلى الاختلاف في إطار الوحدة، وهو أمر يمكن استعادته واستمراره إذا ما كانت بوصلة الجميع هي مصيرنا ومستقبلنا الوطني وإذا أدرك الكُل الفلسطيني الوطني بمختلف اتجاهاته أهمية ذلك في مواجهة التحديات الصعبة في هذا المنعطف الجاري اليوم. و يبقى الهدف الرئيسي لأي إصلاح واستنهاض من الداخل الفلسطيني الوطني هو تحقيق طموحات الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال والكرامة الإنسانية، دون ضرورة أن يواجه ذلك بردود لا تتسم بالموضوعية ورحابة الصدر الوطنية وقبول الرأي الآخر لمجموعات واسعة من خيرة المناضلين والحريصين الوطنيين والحركيين، فلا الجمود ولا احتكار الحقيقة يخدم التطور الإيجابي وتحقيق ما يصبوا إليه الكل الوطني وتطوير الأداء.

دعوات القوى الغربية وبعض عواصم الإقليم للإصلاح والتجديد في النظام السياسي الفلسطيني ترتبط بمصالح سياسية واستراتيجية تتعلق بالاستقرار الإقليمي والأمن من وجهة نظرهم، وضمان استمرار دورهم. فالولايات المتحدة وبعض العواصم الأوروبية والإقليمية تدعو إلى تحديث وتجديد قيادة فلسطينية يمكن تطويعها بشكل كامل لتسهيل التفاوض بفاعلية أكبر في عملية سلام مع إسرائيل.