إسرائيل.. من نشوة النصر إلى دروس الهزيمة

يونيو 22, 2024 - 11:13
إسرائيل.. من نشوة النصر إلى دروس الهزيمة

بعد مرور ثلاث سنوات، بالتمام والكمال، على أكتوبر 1956، والعدوان الثلاثي على مصر، خصّ دافيد بن غوريون جريدة "هآرتس" ‏الإسرائيلية، بمقابلة واسعة، قال فيها: "إن أولئك الذين يعتقدون أنه من الممكن اليوم حل القضايا التاريخية بين الشعوب، بالقوة ‏العسكرية وحدها، لا يعرفون في أي عالم نعيش… إن كل قضية محلية أصبحت قضية دولية، ولهذا السبب فإن علاقاتنا مع شعوب ‏العالم، ليست أقل أهمية من قوتنا العسكرية، التي يتوجب أن نستمر في تعزيزها، من أجل الردع، لمنع تعرضنا للهجمات، ومن أجل ‏تحقيق الانتصار، إذا اضطررنا لخوض الحرب"‎.‎


تعلّم بن غوريون هذا الدرس من تجربته الخاصة: حقق انتصاراً عسكرياً واضحاً، لكنه انتهى إلى هزيمة سياسية أكثر وضوحاً. وبعد ‏استمتاعه بنشوة النصر، لخمسة أشهر فقط، اضطر للانسحاب من كل سيناء المصرية، وقطاع غزة الفلسطيني، في العام 1957، بقرار ‏دولي تم التوافق عليه بين الولايات المتحدة (دوايت آيزنهاور) والاتحاد السوفييتي (نيكيتا خروتشوف)‎.


أين إسرائيل اليوم من هذا الدرس؟ بنيامين نتنياهو، ومجموعة العنصريين الظلاميين في حكومته، والأقزام المحيطين به، و‏الأحزاب الصهيونية في المعارضة أيضاً، يرتكبون الجرائم والحماقات في مسلسل لا ينتهي، باستخدام القوة العسكرية وحدها لـ"حل ‏القضايا التاريخية" بين إسرائيل والشعب الفلسطيني‎.‎


ما زالت كل إسرائيل، بأحزابها الصهيونية العنصرية، وبكل قياداتها العسكرية، وبالغالبية العظمى من مفكريها وكتابها ‏وصحافييها، غارقة في "سكرة" الانتصار المذهل الذي تحقق لها في حرب 1967. لم تكفهم "صفعة" السادس من أكتوبر 1973 ‏المدوّية، لاستعادة رشدهم، فجاءهم "زلزال" السابع من أكتوبر 2023، وها هم يتصرفون كثور هائج على مدى أكثر من ثمانية أشهر ‏متواصلة، ينطحون بجنون، يقتلون ويجرحون أكثر من 140 ألف فلسطيني، الكثير منهم ما زالوا مدفونين تحت الأنقاض، وأكثر من ثلاثة ‏أرباعهم من النساء والأطفال وكبار السن والمدنيين، ويعيدون، أسبوعياً أو شهرياً، احتلال وتدمير ما سبق لهم واحتلوه ودمّروه مرات ‏ومرات‎.‎

ضياع فرصة الاستثمار في الانتصار
ما زالت إسرائيل، بمجتمعها اليهودي، وبقياداتها السياسية والعسكرية، تتربع على ما تعتبره وتعتقده "قمة حرب حزيران 1967"، ‏دون أن تعي أن عدم استثمارها لنتائج تلك الحرب، والاستفادة من نصرها المدوّي ذاك، بتحويله سلّماً للوصول إلى حل سياسي ‏منطقي، والاحتكام إلى الشرعية الدولية، والاعتراف بالحقوق العربية، وبحقوق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وبكل ما يترتب ‏على ذلك من استحقاقات، قد حوّل تلك "القمّة" إلى درك أسفل حفرة بالغة العمق، وجعلها في حقيقة الأمر بحاجة إلى سلّم، لا ‏لإنزالها من "القمّة"، وانّما لانتشالها من جُبّ عميق تقبع فيه منذ سنين، وتمارس حماقة متابعة الحفر لتغرق أكثر‎.‎


بجردة حساب بالغة الاختصار، يمكن لنا التأكد من تآكل جميع عناصر القوة الإسرائيلية، في السنوات القليلة الماضية، وقد زادت وتيرة ‏هذا التآكل أضعافاً مضاعفة، منذ زلزال السابع من أكتوبر‎:‎


‎1‎ـ عنصر القوة العسكرية‎:‎
كشف زلزال السابع من أكتوبر زيف المبالغة في قدراتها الاستخبارية، وما تملكه من قوة ردع وتخويف جميع ضحاياها وأعدائها، ‏وقدرتها على حسم المعارك والحروب بأسلوب الضربة الخاطفة خلال أيام، ولم تتعلم دروس استحالة الانتصار، في ‏أية حرب يخوضها أي جيش نظامي في مواجهة " حرب العصابات التي تخوضها ميليشيات لتحقيق هدف سياسي واضح ‏ومحدد ومشروع: التخلص من الاحتلال والاستعمار وإنجاز حقها في تقرير مصيرها‎.‎


لا يملك المقاتلون والمناضلون الفلسطينيون في قطاع غزة معسكرات ولا مئات الدبابات والمدرعات والطائرات الحربية، ولو كانوا ‏يملكون ذلك، لتمكنت آلة الحرب الإسرائيلية الهائلة من سحقها خلال ساعات أو أيام. لكنهم يملكون ما هو أقوى وأقدر على تحقيق ‏الانتصار: إنهم يملكون الإرادة والحق والمشروعية.. وما تيسّر من معدّات قتالية بسيطة محلية الصنع، في غالبيتها، ويخوضون ‏معاركهم معتمدين سياسة "عش الدبابير". ونجاح آلة الحرب الإسرائيلية الهائلة في تحطيم عش الدبابير، تجعل كل الفضاء المحيط ‏ كمائن لدبابير تلسع قوات العدو وترهقه إلى أن تهزمه. وتجعل من كل حفرة قذيفة يطلقها العدو خندقاً لمقاتل، وتجعل من ‏كل بناء مهدوم متراساً‎.‎


‎2‎ـ عنصر تكاتف وتكافل فئات المجتمع: الإسرائيلي‎
حدِّث ولا حرج.. بدل التكاتف تعارض، وبدل التكافل تنابذ، بالطول وبالعرض. بدأت منذ عقود، وظهرت للعيان والملموس منذ ‏سنوات إلى أن وصلت أخيراً إلى تشكيل ائتلاف حكومي هجين، مكون من أحزاب وأعضاء أفضلهم بالغ السوء، وحلفاء أكثر ‏عنصرية وتخلفاً، ومعارضة برلمانية تمثل التحالف الحاكم سوءاً وعنصرية، وتمتاز عنه بأنها أكثر خبثاُ، وذكاءً في خداع شعوب ‏ودول. ومثال واحد من بين مئات عديدة أخرى، ما قالته الكاتبة الصحافية المميزة، رافيت هخط، التي نشرت في "هآرتس" ‏‏31-5-2024، مقالاً عالجت فيه موضوع خروج غانتس وآيزنكوت من "مجلس الحرب" ومن حكومة نتنياهو، حيث قالت: "عندما ‏تظهر استطلاعات الرأي مرة أخرى أن المجتمع، أو نسبة عالية منه، رئيس حكومة ذبِح في عهده مواطنوه، واغتصبت بناته، ‏وخُطف أطفاله، ويستمر في القيادة، ويقود إلى نزيف عسكري، وعزلة سياسية، وأزمة اقتصادية، وينعش ثقافة الفساد والإجرام ‏والجهل والتخلف، هو مجتمع فاسد.. مريض للغاية، بلا أدوية للعلاج، وربما بدون رغبة في الشفاء‎".


‎3‎ـ عنصر الانخراط في تحالفات‎:‎


هنا أيضاً حدّث ولا حرج. حتى "الحلف الاستراتيجي" مع الولايات المتحدة، حامية إسرائيل، يهتز بقوة منذ أشهر، وأصبحت نسبة مرتفعة، (أكثر من نصف مناصري الحزب الديمقراطي هناك) ‏ونسبة تتزايد في الحزب الجمهوري، تنتقد وتدين السياسات والممارسات الإسرائيلية‎.‎


‎4 ‎ـ عنصر صورة إسرائيل كـ"واحة الديمقراطية في وسط صحراء الديكتاتورية في الشرق الأوسط" لم تعد على ما كانت عليه منذ ‏إعلان إقامتها قبل ثلاثة أرباع القرن، وانقلبت إلى عكسها تماماً في فترة زمنية قياسية‎.‎
‎5‎ـ عنصر تحول إسرائيل إلى "دولة منبوذة"‎:


قد تستدعي الحاجة إلى التوسع في هذا الموضوع، ولكننا نُرجئ ذلك إلى وقت لاحق. ونكتفي بالإشارة هنا إلى أن مسلسل ‏الجرائم الإسرائيلية في الأشهر الثمانية الماضية، منذ بدء حربها الإجرامية على غزة وأهلها والحياة فيها، أدخلها إلى النادي الدولي المُشين نادي "الدول المنبوذة". هذا النادي المشين، يضم، حتى الآن، حسب "غوغل" 13 دولة، ‏و"نجحت" إسرائيل، في زمن قياسي، احتلال المرتبة الخامسة فيه، ولا يسبقها في الإدانة والإهانة والنّبذ إلا أربع دول، هي ‏أفغانستان، روسيا البيضاء، غينيا الاستوائية وإريتريا. ليس "غوغل" وإدارته رمز العدل والمصداقية في العالم، لكن وضع ‏إسرائيل في هذه القائمة له معان وأبعاد ودلالات ومؤشرات إلى مستقبل إسرائيل، دون أن ننسى أنها اصلاً دولة لا مستقبل لها، ‏مستذكرين قول الراحل الفلسطيني، إميل حبيبي: "هاي الدولة مش بنت معيشة"‎


بجردة حساب بالغة الاختصار، يمكن لنا التأكد من تآكل جميع عناصر القوة الإسرائيلية، في السنوات القليلة الماضية، وقد زادت وتيرة ‏هذا التآكل أضعافاً مضاعفة، منذ زلزال السابع من أكتوبر.