مفاهيم بالية يجب إعادة النظر فيها!
تسللت إلى عقلنا الفلسطيني في غيبة الرؤيا السليمة، مفاهيم وأفكار مضللة يجب إعادة النظر فيها، أو شطبها، أو إعادة ترتيبها في نهجنا السياسي. فهذه الأفكار الغازية الغريبة المستوردة المبالغ فيها والتي اقتحمت عقولنا وأقعدت صوابنا، جعلتنا نميل للقعود والسلبية متخذين منها حججا وأعذارا ومبررات. وصرنا نحيل عليها كل خطايانا وأخطائنا وفشلنا وعدم تقدمنا. وها هم العرب والغرب والشمال والجنوب يستخرجونها من ملفاتهم ، ويستعملونها ضدنا ويبرزونها كحل سياسي قادم، وكأن السابع من أكتوبر وتضحياته في عالم وكون آخرين.
بالغنا في وصف المقاومة السلبية، وجعلنا منها وسيلة الحل المنتظر وكأننا في هند غاندي. قرّعنا أنفسنا في موضوع العنف والإرهاب، بحيث استوردنا أفكار غربية صرفة في هذا المضمار وصدقناها. وضعنا أملا سرابيا في الوعود الإسرائيلية الزائفة وفي يسارهم المتلون. لم نضع استراتيجية للرؤيا الفلسطينية المطلوبة وبقينا نراوح في إطار البراغماتية وابتعدنا عن أهدافنا الحقيقية. أغمطنا حق الشعوب في تقرير مصيرها بوسائل تختارها وفق ظروفها. امتدحنا أوسلو القبيح، حتى أننا ليومنا هذا، عجزنا عن تعديل نقطة أو فاصلة في صيغه. أعطينا قرارات الأمم المتحدة وزنا أكبر من وزنها، وزاد اعتمادنا عليها والإلتجاء إليها، بحيث جعلنا لصيغها قوة وهمية بينما هي ملجأ للعجزة. غرقنا في التفرقة بين الشيعة والسنة، وحرفتنا بوصلتنا عن المستوطنات ونهب أراضينا. تعلقنا بقواعد القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، ونسينا تذكر آلياته الضعيفة. نزعنا صفة الثوار وارتدينا الياقات البيضاء وغدونا خدما مدنيون وصرنا نصدر القرارات بقانون. صدقنا الوعود الأمريكية الزائفة ووضعنا كل أمتعتنا في خزائنها، فإذا العثّ والبق يغزوها.
بعد الإنتفاضة الأولى التي كانت هبّة جماهيرية فلسطينية حقيقية، في مواجهة الإحتلال الإسرائيلي، وتحقيق حق تقرير المصير الفلسطيني، دخلنا سراديب والآعيب الحلول السياسية قبل نضج الأحداث. وادرنا محادثات في إقنيمين متوازيين تحت حجج وأعذار ومسميات ووعود عربية وفلسطينية وغربية، كانت نتيجتها مخلوقا مشوها إسمه أوسلو، لم نراجعه لا مضمونا ولا كلمات، واكتفينا بالحد الأدنى المالي. وأجلنا المواضيع الأساسية والحيوية كالقدس والمستوطنات واللاجئين وهرولنا للشكليات وإقامة الدوائر والوزارات والمحافظات.
ودخل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لفناء بيتنا واستقبلناهم بترحاب، وبدأوا بوضع الشروط على سيادتنا، ونحن لا نملك إلا تلبيتها. وصرنا نأخذ القروض ونفرض الضرائب حيث بدأنا حياة استهلاكية، ونعيما زائفا لا تتفق مع كوننا شعب تحت الإحتلال. وأقمنا أجهزة أمن متعددة اختلطت صلاحياتها وتنافست بعضها ببعض، وأخذ منا وقت وجهد لفرز الحدود والإختصاص بينها، واستوعبت ثلث ميزانيتنا بدل أن نحملها على الغير. ، وخلنا نفسنا دولة بحق ورفعنا علمها، في حين أننا لم نكن نسيطر على معابرنا ولا على سجلات قيد نفوسنا، ولا على بترولنا أو غازنا، ولا على مينائنا الجوي أو البحري، حتى مياهنا الجوفية أوالإقليمية أوهواءنا، ضاعت سدى.
وما لبثنا أن دخلنا في نقاشات لفظية وعبثية مع الإحتلال الإسرائيلي، وأصبح سلاحنا الوحيد كلمات ومفاوضات في مفاوضات، ليوسع منطقة ألف أو باء وينسحب من سي، والكيان يبني المستوطنات ويستولي على العقارات، ويهدم المنازل في منطقة سي وفي القدس ونحن نعزي النفس، بأن هذه الأمور مؤقتة ستزول بمجرد زوال الغشاوة عن أعين جيراننا في الكيان أو أملا في انتخابات قادمة تحمل حكومة جديدة وتغييرا سياسيا. وأن حسن النوايا سيسود، وما كنا مدركين لسواد قلوبهم وسوء نياتهم، وكنا ساذجين بلهاء أسقطنا أسلحتنا ولم يعد لدينا سوى الكلمات العاجزة المتوسلة، حتى المواقف تجمدت والمآقي تحجرت، وهم استغلوا ذلك أبشع استغلال.
في خضم كل ذلك، دخلت ساحتنا السياسية والفكرية مفردات غريبة كالعنف والإرهاب وحقوق الإنسان، وسوقت بمضامين ومفاهيم غربية صرفة أحادية بدون تدقيق أو تمحيص، وكأنها البلسم الشافي لمعاناتنا. وكانت بعض المنظمات غير الحكومية جالبة ومروجة لهذه المفاهيم، طمعا في تمويل أو اقتناعا مفتعلا زائفا. وأخذنا نرددها كالببغاء ، ونقيم لها الندوات، ونفرد لها المساقات الجامعية، حتى استقرت في عقولنا وقلوبنا، وغسلت مفاهيمنا السابقة بل غدت خطئا مطلقا، ولم تعد مقاومة الإحتلال بكل أشكاله، نهجا مقبولا ولا سنة حميدة، وقبلنا الإعتقال الإداري وسلمنا بالمؤبدات بدون عدد، وتحجيم الصليب الأحمر دوره وعقده المحادثات مع رجال الجيش الإسرائيلي، وتقليص الوضع القانوني للأسرى وامتيازاتهم وحاجياتهم، وفرض العقوبات عليهم، وزياراتهم، حتى بلغ عددهم اليوم أكثر من عشرة آلاف أسير.
وفرحنا كالأطفال بقرار أممي هنا وهناك، حتى ولو لم ينفذ، أو صدر بدون استناد للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
وبانت نواجذنا عندما أصدرت محكمة العدل الدولية رأيا استشاريا حول الجدار العنصري . واستبشرنا خيرا عميما عندما أصدر القاضي اليهودي جولد ستون تقريره وطالب بمحاكمة مجرمي الحرب. ولم تكد الفرحة تسعنا حينما أصدرت اليونسكو قرارا بشأن القدس العربية. وها نحن نكاد نطير من الفرح حينما طرحت وقدمت دولة جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية لائحة اتهام بجريمة الإبادة، التي قد تستغرق حكمها النهائي وليس الإحترازي، سنوات طوالا. ببساطة أعطينا المجتمع الدولي بكل مؤسساته والعلاقات الدولية أكبر مما يستحق ومن حجمه الحقيقي وأهملنا قوتنا الحقيقية.
وتجاهلنا كل عيوبه وثغراته وضعف جزائه. وحتى لم نتعلم من الدرس العراقي بغزوه للكويت، ولا من الدرس الأوكراني من الغزو الروسي له، بأن ما دونه قانون الحرب من نصوص نظرية جميلة، يحتاج إلى آلية تطبيقية على الأرض، وهذا ما يفتقده القانون ويستعمله السياسيون بمعيار مزدوج.
ودخلنا في متاهات فكرية وعصبية ودينية، كانت غائبة طيلة سنوات الخمسينيات والستينيات والسبعينيات تتعلق بالشيعة والسنة والأقليات. وبدأنا نتخذ مواقف ونحن الذين كنا نكرر على استمرار أننا لا نتدخل بالشؤون الداخلية للدول ولا نتخذ مواقف من سلبية من المنازعات فيها أو بينها. ولم نستطع أن نتخذ موقف الحياد بل غدونا طرفا في عدة مناسبات وخسرنا أكثر مما ربحنا. حتى الزيارات غير الرسمية تم تجنبها، ووضع البيض الفلسطيني كله، في السلة الأمريكية التي ما انفكت تدير الصراع من عام 1948 ولا تقوم بحلّه ولن تقوم.
وللأسف، لم نستفد من الدرس اللبناني والسياسة في لبنان، ووجود حزب الله في الساحة اللبنانية كطرف أساس، وبدلا من ذلك، طلبنا من المقاومة الإسلامية أن تعترف بما قامت به منظمة التحرير الفلسطينية قبل أوسلو كشرط لدخولها المنظمة. وما ضرها أن تدخل المنظمة كفصيل بل هو أجدى سياسيا، أن تبقي تحفظها على اعترافات المنظمة في إطار من المرونة والوحدة الوطنية. حتى ولم نتعلم من الدرس الإسرائيلي القاضي بتشكيل حكومة يمين متطرفة دينية، هم في الكيان يستعملون ذلك الأمر، من أجل تحقيق أهدافهم وتعطيل أهداف الغير. وإلا كيف يجمعون بين كل هؤلاء أمثال سموترتش وبن غفير ودرعي وغافني وجانتس .
مطلوب أن نغير مفاهيمنا البالية، وأن ننفض الغبار عنها، ونقيم وحدة وطنية حقيقة تستند للشعب الفلسطيني أو يرضى عنها، ونبادر لتجسيدها بشكل ما، في ظل الواقع الجديد بما أفرز من أوضاع بعد السابع من أكتوبر من عام 2023. مطلوب أن نقيم استراتيجية فلسطينية جديدة تتناسب مع السابع من أكتوبر. مطلوب أن نشكك في كل خطة أمريكية وعربية لحل الصراع، ونقدم أجندتنا عليها جميعا. مطلوب أن نقدم حلا يستند إلى قرار التقسيم رقم 181. مطلوب فكر ثاقب يقوم على الحقوق الوطنية المشروعة للشعب العربي الفلسطيني فغدا يوم آخر!!!