ما بعد حظر الإخوان: تحديات "حماس" في مواجهة شيطنة الإسلام وإعادة صياغة خطابها الوطني

ديسمبر 3, 2025 - 10:20
ما بعد حظر الإخوان: تحديات "حماس" في مواجهة شيطنة الإسلام وإعادة صياغة خطابها الوطني

د. أحمد يوسف

تواجه حركة حماس اليوم واحدة من أدقّ مراحلها وأكثرها حساسية منذ انطلاقتها قبل أكثر من ثلاثة عقود. فالحرب الإسرائيلية على غزة، بما حملته من جرائم إبادة وتدمير شامل للبشر والحجر، لم تكتفِ باستهداف البنية المادية للمقاومة، بل فتحت الباب أمام حملة سياسية وإعلامية كبرى تستهدف الوجود الإسلامي في ملعب السياسة، وخصوصًا في فلسطين. وفي ظل موجة عالمية آخذة في التصاعد ضد كل ما هو إسلامي، يبرز القرار الأمريكي المُعلَن بحظر جماعة الإخوان المسلمين—وهي الرافد التاريخي للفكر الحركي الذي استلهمت منه حماس رؤيتها الأولى—كواحد من أخطر التحولات التي ستنعكس على مستقبل الحركة وصورتها وموقعها في معادلة الصراع.

 

لقد مثل هذا التوجه الأمريكي فرصة ذهبية لليمين المتطرف والصهيونية الدينية لتكريس سردية تقوم على ربط الإسلام نفسه بالعنف، وتصوير أي حركة ذات مرجعية دينية باعتبارها تهديدًا عالميًا يجب استئصاله. وهذا التوظيف السياسي لم يتوقف عند حدود الإخوان أو حماس، بل امتدّ إلى محاولة ضرب شرعية الفكرة الإسلامية الوطنية في فلسطين، وتشويه دورها التاريخي في حماية الهوية ومقاومة الاحتلال. فالخطر هنا لا يستهدف تنظيمًا بعينه، بل يسعى لتجريد الشعب الفلسطيني من عمقه الأخلاقي والثقافي الذي شكّل رافعة نضاله على مدى قرن كامل.

 

في هذا السياق، تصبح مهمة حماس أكثر تعقيدًا، إذ يتعين عليها أن تواجه حربًا مزدوجة: حربًا ميدانية تُشنّ على غزة بلا هوادة، وحربًا سياسية وفكرية تستهدف صورتها وشرعيتها وتاريخها. ومن أجل ذلك، تبدو ضرورية مراجعة أساليب الخطاب، وتطوير أدوات العمل السياسي بما يحمي المشروع الوطني ويحصّن الفكر الإسلامي من محاولات التشويه والشيطنة.

 

ورغم أن جذور الحركة تمتد فكريًا إلى مدرسة الإخوان، فإن الواقع الفلسطيني فرض عليها منذ البداية صياغة تجربة مختلفة تتقدم فيها الهوية الوطنية على أي انتماء خارجي. واليوم، تبدو الحاجة أكثر إلحاحًا لتعميق هذا التمايز وإبراز حماس كحركة تحرر وطني ذات مرجعية قيمية إسلامية، لا كتنظيم عقائدي مغلق أو امتداد لهيكل تنظيمي خارجي. فإعادة تقديم الذات بهذه الطريقة يمنح الحركة مساحة أوسع للتفاعل مع محيطها العربي والإسلامي، ويقطع الطريق على محاولات خصومها تصويرها كحركة خارج السياق الفلسطيني.

 

ومن التطورات المهمّة التي تفرض نفسها اليوم ضرورة بناء جسور أوسع مع القوى اليسارية والمكونات الوطنية التي تشارك الحركة رؤيتها حول التحرر وإنهاء الاحتلال، إضافة إلى الانفتاح على التجمعات اليهودية حول العالم التي تعلن رفضها للصهيونية باعتبارها مشروعًا عنصريًا استعماريًا. لقد كشفت حرب غزة عن حضور لافت لهذه الأصوات اليهودية، التي باتت جزءًا من حركة عالمية أوسع للدفاع عن الحقوق الإنسانية وفضح الأيديولوجيا العنصرية للدولة العبرية. والانفتاح على هذه القوى لا يهدف فقط إلى كسر العزلة، بل أيضًا إلى إعادة تأكيد الطابع الإنساني للصراع الفلسطيني، وأنه صراع ضد مشروع استيطاني إحلالي لا ضد ديانة أو جماعة بشرية.

 

وفي ظل هذا المشهد العالمي المتوتر، تبدو الحاجة ماسة إلى تطوير الخطاب السياسي للحركة ليصبح أكثر قربًا من لغة القانون الدولي، وأكثر قدرة على مخاطبة الرأي العام العالمي الذي بدأ يدرك حجم الكارثة التي ارتكبتها إسرائيل في غزة. إن تبني خطاب سياسي لا عنفي في المحافل الدولية—دون التخلي عن جوهر المقاومة المشروعة—يمكّن الحركة من تقديم نفسها كفاعل سياسي يحترم القانون الدولي ويستند إلى حق تقرير المصير، وهو الحق الذي يكفله الشرعان الدولي والإنساني للشعوب الخاضعة للاحتلال.

 

ولا يعني ذلك بأي حال التخلي عن خيار المقاومة أو مراجعة جوهر مشروع الحركة، بل إعادة تقديمه في إطاره الطبيعي: حق شعب واقع تحت الاحتلال في الدفاع عن نفسه. فالمقاومة في بعدها الوطني ليست مشروعًا أيديولوجيًا للعنف، بل ممارسة مشروعة أكدتها تجارب الشعوب التي خاضت نضالًا طويلًا ضد الاستعمار، من جنوب أفريقيا إلى فيتنام والجزائر. وهذا التقديم الجديد يُسهم في نزع الذرائع التي تستند إليها إسرائيل في محاولة شيطنة الحركة وتصويرها كتهديد عالمي.

 

إلى جانب ذلك، فإن التراجع العربي أمام الضغوط الأمريكية، وتنامي موجات التطبيع، منح إسرائيل فرصة لفرض سرديتها على جزء من النظام العربي، الذي بات يردد رواية الاحتلال عن "حرب الإرهاب" بدل الحديث عن حقوق الفلسطينيين. وهنا تصبح مسؤولية حماس مضاعفة: فمن جهة عليها حماية مشروعها الوطني من محاولات الشطب والإلغاء، ومن جهة أخرى عليها العمل على إعادة بناء عمق عربي وإسلامي، يستند إلى عدالة القضية ورفض مشاريع إعادة تشكيل المنطقة بما يخدم الهيمنة الإسرائيلية.

 

إن واحدة من أهم أولويات المرحلة تتمثل في توسيع دائرة العمل الوطني المشترك، وتعزيز التنسيق مع مختلف الفصائل والقوى السياسية، وتقديم نموذج يعكس وحدة الشعب في مواجهة الإبادة، بعيدًا عن الحسابات الفصائلية. فهذا المسار هو وحده الكفيل بتحويل الخطاب الوطني إلى قوة ردع سياسية، ومواجهة السردية الإسرائيلية التي تحاول تصوير الفلسطينيين كجماعات متصارعة لا كحركة تحرر موحدة.

 

كلمة الفصل وبيت القصيد..

 

إن ما بعد حظر الإخوان ليس مجرد مرحلة سياسية جديدة، بل هو اختبار لقدرة حماس على حماية خطابها وفكرها وهويتها الوطنية في عالم يميل إلى شيطنة الإسلام وتشويه حركات التحرر. ولعل أكثر ما تحتاجه الحركة اليوم هو:

 

تقديم نفسها أولًا كحركة تحرر وطني ذات مرجعية قيمية.

 

بناء تحالفات سياسية وإنسانية واسعة داخل فلسطين وخارجها.

 

اعتماد خطاب قانوني وحقوقي يعزز شرعية المقاومة.

 

مواجهة محاولات العزل عبر تعميق الارتباط بالمحيط العربي والإسلامي.

 

بهذه المقاربة يمكن للحركة أن تعبر المرحلة بأقل الخسائر، وأن تحافظ على حضورها ودورها في معادلة الصراع، بوصفها جزءًا أصيلًا من حركة التحرر الفلسطينية، لا مجرد امتداد تنظيمي يخضع لتقلبات السياسة الدولية.