خبير في الذكاء الاصطناعي!

عبد الرحمن الخطيب

نوفمبر 30, 2025 - 09:37
خبير في الذكاء الاصطناعي!

عبد الرحمن الخطيب

بدأ المشهد الرقمي العربي، والفلسطيني تحديداً، يمتلئ بمنشورات وصور إعلانية وأسماء لامعة جديدة تُقدَّم على أنها "خبراء في الذكاء الاصطناعي"، مثلاً صور أنيقة، ألقاب براقة، شهادات من هنا وهناك، ووعود بتغيير العالم خلال ساعات قليلة، ولست أخفي استغرابي من هذا "الاجتياح الخبروي" الذي جعل من كل مهتم أو باحث أو حتى مبتدئ في استخدام التطبيقات، خبيراً يَشِي باسمه أنّه أمضى عقوداً في المختبرات والجامعات العريقة أو في ميدان العمل.

تطرح هذه الظاهرة سؤالاً بسيطاً لكنه جوهري: متى يصبح المرء خبيراً فعلاً؟ وكيف تحوّل لقب "خبير في الذكاء الاصطناعي" إلى بطاقة تُطبع أكثر مما تُبنى، وتُسوّق أكثر مما تُختبر؟

إن الذكاء الاصطناعي علمٌ واسع، متعدد الحقول، متجدد بسرعة تكاد تفوق قدرة الأسواق على استيعابها، وحتى الدول التي سبقت العالم خطوات في هذا المجال، مثل الولايات المتحدة والصين وكوريا، لا تمنح لقب خبير بسهولة؛ فهو يحتاج إلى سنوات من البحث، ومشاريع عملية، وتجارب فاشلة وناجحة، ومسار طويل من التعلم المستمر، فكيف إذا كنا نتحدث عن بيئة عربية وفلسطينية ما تزال في بداياتها التقنية، وما يزال الكثير من مؤسساتها يعمل على بناء البنية التحتية للرقمنة من الأساس؟

مسمى "خبير" ليس ترفاً لغوياً، ولا زينة توضع في مقدمة السيرة الذاتية، هو مسؤولية معرفية وأخلاقية، قبل أن يكون وجاهة اجتماعية، وتحديد هذا اللقب يحتاج إلى معايير واضحة سواء في الذكاء الاصطناعي أو غيره من الحقول العلمية والعملية، أهمها:

 

أولاً: عمق المعرفة النظرية والعملية

الخبير هو من يعرف ماذا وراء الأداة، لا من يجيد استعمالها فقط، هو من يفهم الخوارزميات، ومراحل بناء النماذج، وحدود التقنية، ومخاطرها، وسياقات استخدامها. استعمال "تشات جي بي تي" أو إنشاء صورة عبر برامج التوليد المرئي لا يُكسب أحداً لقب الخبير، تماماً كما أن تشغيل برنامج فوتوشوب لا يجعل المرء فنّاناً تشكيلياً.

 

ثانياً: التجربة الميدانية

لا يُبنى الخبراء في الغرف المغلقة، ولا على الورق. الخبير هو من عمل على مشاريع حقيقية، مع بيانات حقيقية، وواجه كل ما تتضمنه من ضوضاء، وتعقيدات، ونواقص، وتحديات، هو من قاد فرقاً تقنية أو بحثية، أو بنى حلولاً لها أثر ملموس.

 

ثالثاً: الإنتاج العلمي أو المهني الموثّق

بحث منشور، كتاب، دراسة، مشروع تقني موثق، دورة معتمدة، ورشة تدريبية حقيقية، أو مبادرة وطنية تسهم في رفع الوعي أو بناء قدرات الناس. الألقاب لا تُمنح بالكلام، بل بالإنجاز.

 

رابعاً: القدرة على التعليم والتبسيط

الخبير الحقيقي هو من يستطيع أن يشرح فكرة معقدة لطفل في المرحلة الأساسية دون مبالغة أو استعراض. فالعلم بلا قدرة على النقل، معرفة ناقصة.

 

خامساً: الالتزام بالأخلاق المهنية

في زمن الذكاء الاصطناعي، يصبح الخبير مسؤولاً عن نشر الثقافة الصحيحة، وتحديد حدود استخدام التكنولوجيا، والتحذير من مخاطرها، والخبرة بلا أخلاق، تتحول إلى سلاح مغلوط.

ومع كل ما سبق، فإنّ الأمر الذي يدعو للتفاؤل -على الرغم من هذا التزاحم- هو أن وجود هذا العدد الكبير من المهتمين بالذكاء الاصطناعي قد يشكل فرصة. فرصة لبناء وعي جماعي، وفرصة لتجميع الطاقات، وفرصة للاتفاق على خارطة طريق فلسطينية تجعل من الذكاء الاصطناعي رافعة للتنمية، لا مجرد "موضة" على صفحات التواصل الاجتماعي.

وأتمنى لو استطاعت هذه "الخبرات" المتناثرة أن تجتمع في بوتقة واحدة، تحت مظلة وطنية حقيقية. أن تتحول من شعارات تسويقية إلى مشاريع ترفع من مستوى التعليم، وتدعم الاقتصاد، وتخدم إعلامنا وصحافتنا، وتساعد في بناء مستقبل رقمي مستقل لشعبنا. وإذا كانت هذه الخبرات صادقة ومؤهلة، فمكانها الطبيعي هو خدمة فلسطين، وتطوير قدرات شبابها، وبناء مؤسساتها، لا الاكتفاء بملصقات إعلانية ومنشورات ممولة.

لقد آن الأوان لننتقل من مرحلة "الادعاء الرقمي" إلى مرحلة "البناء الرقمي". وأن نحول الشغف إلى معرفة، والمعرفة إلى أثر، والأثر إلى نهضة.

فالذكاء الاصطناعي ليس عنواناً نعلقه، بل مسار نلتزم به. وليس صورة نشاركها، بل مسؤولية نتحملها. والخبرة لا تُعلن… بل تُثبت.

وفي النهاية، قد لا يكون المهم عدد الخبراء الذين يطلعون علينا كل يوم، بل المهم باعتقادي : كم منهم سيبقى بعد عشر سنوات؟ وكم منهم سيصنع أثراً وبصمةً على خارطة فلسطين الرقمية؟

هنا يُختبر الخبير… وليس على صفحات التواصل.