هل "الممدانية" تشكل خطراً وجودياً لإسرائيل ؟

نبهان خريشة

نوفمبر 8, 2025 - 09:09
هل "الممدانية" تشكل خطراً وجودياً لإسرائيل ؟

نبهان خريشة

منذ إعلان فوز زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك، لم تهتز إسرائيل وحسب، بل عمّ الذهول الدوائر الصهيونية في واشنطن وتل أبيب على السواء. فصعود ممداني، وهو السياسي الأمريكي من أصول أوغندية هندية وذي جذور فكرية تقدمية واضحة، لا يُعد مجرد تحول انتخابي محلي في مدينة كوزموبوليتانية، بل يمثل من وجهة النظر الإسرائيلية “زلزالاً وجودياً” يهدد الركائز النفسية والسياسية التي بنت عليها إسرائيل نفوذها داخل المجتمع الأمريكي. فالممدانية— أي المدرسة السياسية والفكرية التي يمثلها ممداني— تتجاوز حدود نيويورك لتغدو نموذجاً يمكن أن يُحتذى به في عواصم غربية أخرى، حيث تنمو الحركات اليسارية الجديدة والشبكات الشبابية الرافضة للهيمنة الإسرائيلية على العقل الغربي.

من وجهة نظر إسرائيل، فإن خطورة الممدانية لا تكمن في مواقفه السياسية المعلنة فحسب، بل في بنيتها الأخلاقية والفكرية التي تستعمل أدوات الديمقراطية الأمريكية لتفكيك “القوة المجتمعية اليهودية” من الداخل. فهو، بعكس معظم السياسيين الأمريكيين الذين ينتقدون سياسات إسرائيل دون المساس بشرعيتها، يطرح تصوراً جذرياً يرى في المشروع الصهيوني ذاته فعلاً استعمارياً. بهذا الطرح، يُعيد تعريف العلاقة بين اليهودية والسياسة، في إطار ما يسميه أنصاره “اليهودية التصحيحية”— أي العودة إلى قيم العدالة والإنسانية التي تخلت عنها الصهيونية باسم “البقاء”. هذه المقاربة الأخلاقية الخطيرة بالنسبة لتل أبيب تمنح الشرعية لأشد الأصوات اليهودية تطرفاً في معاداتها للصهيونية، وتفتح الباب أمام تفكك الإجماع اليهودي الذي طالما شكّل أحد أهم أسلحة إسرائيل في الساحة الدولية.

الممدانية، بحسب قراءة مراكز التفكير الإسرائيلية، تمنح الغطاء الأخلاقي لتلك الأصوات اليهودية المناهضة لإسرائيل داخل الجامعات الأمريكية، والمنظمات الحقوقية، وحتى داخل الأوساط الثقافية والفنية التي كانت لعقود محرمة على أي نقد للصهيونية. الأخطر من ذلك أنها تُحوّل هذه الأصوات إلى “درع بشري” ضد تهمة معاداة السامية، السلاح الخطابي الذي طالما استخدمته إسرائيل لإسكات منتقديها. فحين يرفع يهود تقدميون، مدعومون من عمدة نيويورك نفسه، شعار “ليس باسمنا”، فإن الخطاب الإسرائيلي يفقد فاعليته ويصبح الدفاع عن إسرائيل فعلاً سياسياً مكشوفاً لا يستند إلى الشرعية الأخلاقية. هذا ما تعتبره تل أبيب بداية “كسر الإجماع اليهودي” الذي وُلد بعد الحرب العالمية الثانية وترسخ مع قيام الدولة العبرية.

ممداني يدرك بدقة تعقيدات الوعي اليهودي الأمريكي الشاب، الذي يعيش تناقضاً بين إرث القيم التقدمية الموروثة عن آبائه من الحركات الحقوقية، وبين الدعم التقليدي لإسرائيل باعتبارها “الوطن التاريخي” لليهود. لقد اختار ممداني أن يخاطب هذا الجيل من داخل منظومته القيمية لا من خارجها، مقترحاً عليهم أن يتصالحوا مع يهوديتهم عبر التنصل من إسرائيل، لا عبر الدفاع عنها. وهنا تكمن براعة “اليهودية التصحيحية” التي يروج لها: إنها لا تُعارض اليهودية بل تدّعي إنقاذها من الصهيونية. وهكذا يجذب ممداني، من موقعه الرمزي الجديد، آلاف الشباب اليهود الذين يبحثون عن هوية أخلاقية في زمن تتهاوى فيه صورة إسرائيل كـ “دولة ديمقراطية”.

من زاوية أخرى، تمثل الممدانية تهديداً مباشراً للبنية التي يقوم عليها “التضامن اليهودي العالمي”. فهذا التضامن، الذي تأسس منذ منتصف القرن العشرين على فكرة أن إسرائيل هي الضمانة الوجودية لكل يهودي في العالم، يتعرض اليوم للتآكل مع بروز تيارات يهودية ترفض هذا الارتباط العضوي بالدولة العبرية. وإذا كان هذا التحول قد بدأ على هوامش اليسار الأمريكي، فإن فوز ممداني بمنصب سياسي بحجم بلدية نيويورك — المدينة التي تضم أكبر تجمع يهودي في العالم بعد تل أبيب — يعطيه زخماً مؤسسياً غير مسبوق. إن تفكك التضامن اليهودي يعني، بالنسبة لإسرائيل، انهيار شبكة النفوذ التي بنتها خلال سبعة عقود في الإعلام، والمال، واللوبيات السياسية.

موقف ممداني المؤيد لحركة المقاطعة BDS ليس مجرد تبنٍ رمزي، بل التزام سياسي معلن ترجمته وعوده المثيرة للجدل بمحاسبة أي مسؤول إسرائيلي متهم بارتكاب جرائم حرب في حال دخوله نيويورك، بما في ذلك رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو نفسه. هذه الوعود، حتى وإن كانت رمزية، تشكل صدمة مزدوجة لإسرائيل: فمن ناحية، تمسّ شرعية قادتها السياسيين وتجعلهم عرضة للإذلال القانوني في عاصمة مالية وإعلامية كبرى؛ ومن ناحية ثانية، تضرب في الصميم الهوية اليهودية – الأمريكية التي قامت على تصور الاندماج الكامل في الدولة الأمريكية مع الحفاظ على الولاء لإسرائيل. عندما يصبح هذا الولاء موضع مساءلة أخلاقية وقانونية من مسؤول يملك سلطة تنفيذية في نيويورك، فإن الخط الفاصل بين اليهودي والصهيوني يتصدع لأول مرة على هذا النحو العلني.

التحول الأكبر الذي تخشاه إسرائيل لا يتعلق بممداني كشخص، بل بكونه فاتحة لمرحلة سياسية جديدة في الغرب، حيث يمكن نقد إسرائيل لا كسياسة بل كفكرة. فالممدانية تنقل النقاش من مستوى “سلوك دولة” إلى مستوى “مشروع استعماري”، وتعيد إلى الواجهة الأسئلة الكبرى حول الشرعية، والتمييز، والاحتلال. ولأن هذا الخطاب يتكئ على رموز يهودية يسارية مثل بيرني ساندرز، وحركات طلابية يهودية مناهضة للصهيونية، فإنه لا يُمكن وصمه بسهولة بالعداء للسامية. بهذا المعنى، تعتبر إسرائيل أن الممدانية ليست معركة سياسية بل معركة على الوعي ذاته — معركة على تعريف من هو اليهودي وما معنى أن تكون يهودياً في القرن الحادي والعشرين.

في الماضي، كان يمكن لأي سياسي أمريكي أن ينتقد سياسات الحكومة الإسرائيلية في الضفة أو غزة دون أن يُنظر إليه كخصم لإسرائيل ذاتها. أما اليوم، ومع صعود تيارات مثل الممدانية، فإن الصورة باتت مختلفة تماماً. فالجالية اليهودية الأمريكية نفسها أصبحت منقسمة بين مؤيدين لإسرائيل بوصفها ضرورة أمنية وتاريخية، وبين من يرون فيها عبئاً أخلاقياً يلطخ سمعة اليهود في العالم. هذا الانقسام الداخلي غير المسبوق يحرم إسرائيل من تماسكها الرمزي، ويحوّلها إلى قضية خلافية داخل المجتمع اليهودي نفسه. ومن هنا، فإن الممدانية لا تُهاجم إسرائيل من الخارج بل من عمق نسيجها الاجتماعي في المهجر، مستخدمة أدوات الحرية الأمريكية ذاتها.

إسرائيل تدرك أن أخطر ما يواجهها اليوم ليس صواريخ من إيران، بل فكرة سياسية قادرة على إعادة صياغة علاقة الغرب باليهودية. إن “التسونامي الممداني”، كما تصفه الصحافة الإسرائيلية، يفتح الباب أمام مرحلة ما بعد الصهيونية، حيث يفقد المشروع الصهيوني احتكاره للهوية اليهودية في الغرب، وحيث يصبح التضامن مع الفلسطينيين جزءاً من الثقافة الليبرالية السائدة. وإذا ما انتقل هذا النموذج من نيويورك إلى لندن وباريس وبرلين، فإن إسرائيل ستجد نفسها معزولة أخلاقياً حتى بين أقرب حلفائها التاريخيين.

بهذا المعنى، الممدانية ليست مجرد تيار تقدمي جديد، بل مشروع لإعادة توزيع الشرعية في السياسة العالمية. إنها تسحب من إسرائيل احتكارها للخطاب الأخلاقي، وتمنح خصومها اليهود والعرب والفلسطينيين أداة جديدة لتفكيك بنيتها الرمزية من الداخل. لذلك، حين تصف تل أبيب انتخاب زهران ممداني بأنه “خطر وجودي”، فهي لا تبالغ كثيراً. فوجود إسرائيل، في النهاية، لم يكن يوماً قائماً على القوة العسكرية وحدها، بل على سردية تزويريه بلباس أخلاقي تقول إنها تمثل الضحية التاريخية التي وجدت ملاذها في دولة يهودية آمنة. والممدانية تهدم هذه السردية، وتعيد تعريف الضحية والجلاد، واليهودي والفلسطيني، والعدالة والاستعمار، في معادلة جديدة قد تغيّر وجه الصراع بأكمله.