يان بيتر هامرفولد... حين وجدت فلسطين في قلب نرويجي

اياد أبو روك
حين تصل إلى بلد جديد لا تحمل معك حقيبة فقط بل تاريخاً مثقلاً وقلقاً خافتاً وأملاً هشاً تخفيه عن عينيك. منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، وطئت قدماي أرض النرويج قادماً من ركام الحرب والاضطراب، من وطن أنهكه الموت وخذله العالم. كنت أبحث فقط عن فسحة نجاة، عن هواء لا يشبه البارود، ومكان لا ينظر إلي كلاجئ بل كإنسان.
لكن البداية لم تكن سهلة. اللغة مثل جدار زجاجي، ترى من خلفه كل شيء لكن لا تستطيع أن تعبره. الشعور بالوحدة حاد، والوطن بعيد، والحنين أقسى من الشتاء نفسه. في تلك اللحظة التي يكاد ينكسر فيها الإنسان، التقيت به، يان بيتر هامر فولد..
رجل نرويجي في السادسة والستين من عمره، آنذاك، ظاهره بسيط، صوته هادئ، ومشيته بطيئة، لكنها ثابتة. لم يكن يلفت الانتباه، لكنه كان من أولئك الذين حين يتحدثون عن الحياة تشعر أنهم عاشوا ألف حياة قبل هذه. كان يبدو متقاعداً من كل شيء، لكنه في الواقع كان قد بدأ للتو فصله الأهم: أن يكون صوتاً للعدالة حتى في أقصى حدود العالم.
يان لم يكن نرويجياً عاديا،ً بل كاتب مخضرم صاحب أربعة كتب كاملة خصصها لفلسطين وغزة، كتب فيها ليس من موقع المراقب بل من قلب التجربة، من ملامسة الجرح مباشرة. لم يكن يتحدث عن غزة كقضية بل كقصة، كجزء من روحه. كان يرى في الطفل الفلسطيني حفيداً له، وفي دمعة أم فقدت أبناءها تحت القصف نداء شخصياً، لا يحتمل التجاهل.
في أول لقاء بيننا لم يسألني عن أصلي لم يفتش في جواز سفري ولا لهجتي. فقط رآني كإنسان يحتاج إلى من يسمعه. كان أول من فتح لي بابًا في هذا البلد. رافقني إلى المكاتب الحكومية، شرح لي الأوراق التي لا أفهمها وكان يتواصل معي باستمرار. في البداية ظننته لطفًا نرويجياً، لكن سرعان ما أدركت: يان بيتر لا يجامل، يان بيتر يعيش ليكون إنساناً وهذا يكفيه.
كنا نجلس كثيرًا معاً في المقاهي نشرب القهوة السوداء، ونتحدث عن العالم، عن الضمير، عن أولئك الذين صمتوا حين كان عليهم أن يصرخوا. كنت أتعلم منه أكثر من أي محاضرة. كان يروي لي تفاصيل زيارته إلى غزة، عن أطفال يلعبون بين الركام، عن العيون التي لم تعد تعرف شكل السماء، عن ثلاث مرات أبحر فيها مع أسطول الحرية متحدياً الحصار. تم اعتقاله مرتين من قبل الجيش الإسرائيلي، وفي الثالثة غرق القارب بعد تعرضه للتخريب. نجا من الموت، لكنه عاد أكثر حماسة، أكثر التزاماً، أكثر إيماناً بأن الحياة لا تستحق إن لم تُعش من أجل قضية.
يان لم يكن مجرد ناشط موسمي مؤقت. كان حاضراً في كل مظاهرة، رافعاً علم فلسطين بكل كبرياء. ألقى محاضرات عن تجربته أمام الجماهير، وتحدث إلى الصحافة، ودافع عن القضية في المنتديات، لا كخبير سياسي بل كإنسان لم يحتمل أن يقف متفرجاً على الظلم. وحين تقرأ كتبه لا تجد فيها تنظيراً أو تعالياً بل تجد الدفاع الصادق عن حقوق المظلومين والصدق. كلماته تنبض بتجارب حقيقية وصور واقعية يعيشها الفلسطينيين، وأرواح يتحدث عنها.
بالنسبة لي لم يكن يان مجرد صديق أو داعم، بل كان مثل أخي الأكبر. كان يرى فيّ امتداداً لكل من التقى بهم في غزة. كان يشجعني حين أفقد الحماس، يذكرني بأن الطريق طويل لكنه يستحق، وكان دائماً يردد: العدالة لا تموت لكنها فقط تتأخر.
واليوم، يبلغ يان بيتر من العمر 81 عامًا، ولا يزال كما عرفته: قلباً يقظاً وروحاً مشتعلة بالعدالة. لا زلنا نجلس معا ونتناول القهوة ونتحدث عن فلسطين وكأنها تجلس معنا. لم تتعب ذاكرته من مشاهدة الأخبار ومن ترديد أسماء المدن والقرى، ولم تخمد نار الإيمان بقضية عاشها من الداخل رغم أنه ولد على بعد آلاف الكيلومترات منها.
لكنني سأشارككم شيئا آخر، مدهشا بطريقته... في ذات يوم قررت أن أعزمه على الإفطار في بيتي. أردت أن أُريه لمسة من بلادي، فحضّرت طبق فول فلسطيني بكل ما فيه من زيت زيتون وليمون وكمون. جلس يان أمام الطبق وهو يحدق فيه باستغراب ثم سألني:
ما هذا؟
أجبت بتلعثم واضح وبلغه نرويجية مكسرة!!
هذا فول!
نظر إلي ثم إلى الطبق ثم إلى هاتفي حيث عرضت له صورة الفول من غوغل لأوضح له أكثر. ابتسم وقال لي ضاحكا:
يبدو كطعام للخيول في النرويج
في تلك اللحظة تمنيت لو اختفى الطبق من الوجود! لكننا ضحكنا معاً. ومنذ ذلك اليوم كلما أقرر أكل الفول، أتذكر طعام الخيول وابتسم !!
ربما، لم يولد يان بيتر في فلسطين، لكنه حملها كأنها وطنه الأول. لم تكن دماؤه عربية، لكن ضميره كان ناطقًا باسمها. هذا الرجل الذي بدأ حياته ككاتب هادئ، وانتهى كمقاتل من نوع نادر، أثبت لي أن الإنسانية لا تحتاج إلى حدود، ولا إلى دين، ولا إلى لغة. فقط إلى صدقٍ لا يخون، وقلب لا يخذل... إنها الإنسانية التي تتجلي في أعظم صورها !!.