مأزق استخدام الدين لبناء قومية يهودية

نبهان خريشة
منذ قيام دولة إسرائيل عام 1948، والمشروع الصهيوني يواجه إشكالية بنيوية عميقة تتعلق بمحاولته تحويل الديانة اليهودية إلى هوية قومية متجانسة. هذا المسعى يتعارض جوهريًا مع الخصوصية الدينية لليهودية، ومع المعايير التاريخية والثقافية التي تميز القومية كظاهرة اجتماعية وسياسية. فبينما ترتبط القومية عادةً بعناصر محددة مثل اللغة، الإقليم، التاريخ المشترك، والعادات الاجتماعية، نجد أن اليهودية، باعتبارها ديانة، تفتقر لهذه المقومات إذا ما أُريد لها أن تكون أساسًا لقومية سياسية.
لقد حاولت الصهيونية، منذ نشأتها في أواخر القرن التاسع عشر، أن تخلق قومية يهودية مستندة إلى الدين، وهو أمر غير مسبوق في التاريخ القومي الحديث. فالأديان بطبيعتها عالمية وشمولية، وليست حكراً على جماعة إثنية أو قومية واحدة. وبهذا المعنى، فإن محاولة الصهيونية توظيف الدين لتشكيل "قومية يهودية" لا يمكن إلا أن تكون مصطنعة ومتناقضة من حيث الجوهر.
لقد وظفت الصهيونية الدين اليهودي بشكل استراتيجي لبناء قومية يهودية حديثة، رغم أن جذورها في الأساس علمانية، وذلك من خلال إضفاء شرعية دينية على المشروع القومي باستخدامها نصوصاً مثل وعد الله لإبراهيم في التوراة، لتبرير حق اليهود في "أرض إسرائيل"، وتوظيف مفاهيم دينية مثل "الشتات" و"العودة إلى صهيون" كمبررات قومية لإقامة إسرائيل، كما أحيت اللغة العبرية، التي كانت لغة دينية/ طقسية، لتجعل منها لغة قومية حديثة.
وفي عام 2018، أقرّ الكنيست الإسرائيلي "قانون القومية"، الذي ينص على أن "إسرائيل هي الوطن القومي للشعب اليهودي"، ويؤكد أن حق تقرير المصير في الدولة هو "حق حصري للشعب اليهودي". إلا أن هذا القانون يشكل تحدياً جوهرياً لفكرة "الوحدة القومية" لليهود، لأن اليهود القادمين من أنحاء العالم يأتون من خلفيات ثقافية، لغوية، وعرقية مختلفة، وما يجمعهم فعليًا هو الانتماء الديني أو الشعور به، لا بالضرورة الانتماء القومي. وبهذا فإن قانون القومية لن يكون قادرًا على صهر اليهود القادمين من خلفيات مختلفة في هوية قومية واحدة قائمة على الدين فقط، بل يُكرّس تمييزًا عرقيًا ودينيًا داخل الدولة، ويعمّق الانقسامات بدل أن يعالجها.
إذا افترضنا جدلًا بأن الأديان يمكن أن تشكل أساسًا لقوميات، فإن المنطق يستدعي أن تقيم هذه القوميات دولها في الأماكن التي نشأت فيها أديانهم ومقدساتهم. فالمسلمون، إذا أرادوا تأسيس قومية قائمة على الإسلام، فموطنهم الطبيعي سيكون في شبه الجزيرة العربية، حيث نشأ الدين الإسلامي، وفيها الحرمان الشريفان، مكة والمدينة. وبالمثل، فإن المسيحيين إذا أرادوا تشكيل "قومية مسيحية"، فإن فلسطين، أرض السيد المسيح، أو الفاتيكان كمقر ديني مركزي، ستكون الموقع المنطقي لدولتهم. أما البوذيون، فقد تركزت قومياتهم تاريخيًا في جنوب وشرق آسيا، مثل التبت، الصين، الهند، وسريلانكا.
لكن اليهود، الذين جرى تجميعهم في فلسطين عبر الهجرة المنظمة والمدعومة سياسيًا وعسكريًا، لم ينطلقوا من إقليم واحد، ولم تجمعهم لغة واحدة، ولا ثقافة شعبية موحدة. فبعد مرور أكثر من ٧٧ عامًا على قيام دولة إسرائيل، لا تزال نسبة كبيرة من اليهود الإسرائيليين تحتفظ بلغات وعادات وتقاليد وموسيقى وأطعمة البلدان التي جاؤوا منها: اليهود الروس ما زالوا يتحدثون الروسية ويمارسون طقوسًا وموروثات ثقافية روسية؛ يهود المغرب يحتفظون بعادات مغربية بارزة؛ يهود إثيوبيا يعيشون في عزلة اجتماعية وثقافية نسبية؛ واليهود الأشكناز يفرضون هيمنتهم الثقافية والاقتصادية على بقية الجماعات، ما يكرّس الانقسام الداخلي بدلًا من صهره في قومية موحدة.
هذا الانقسام العميق يؤكد فشل الصهيونية في إنتاج "قومية إسرائيلية" حديثة. فالقومية ليست مجرد تجمع بشري يحمل ديانة واحدة، بل هي منظومة متكاملة من اللغة المشتركة، الثقافة الواحدة، الذاكرة الجمعية، والإحساس بوحدة المصير. لذلك، فإن إسرائيل، رغم امتلاكها مؤسسات دولة، جيشًا، ونظامًا سياسيًا، لا تزال تعاني من ضعف في البنية القومية، حيث تفتقر إلى قاعدة ثقافية موحدة أو شعور قومي جامع، ما يدفعها للتمسك بالدين كعنصر توحيد قسري.
وفي هذا السياق، يعتبر المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند، وهو من أبرز من كشف زيف هذا التأسيس القومي. في كتابه "اختراع الشعب اليهودي"، يبين ساند أن ما يسمى بـ"الشعب اليهودي" لم يكن يومًا وحدة إثنية متجانسة، بل هو نتاج تحولات دينية وجغرافية وانتشار الشتات عبر قرون طويلة. يؤكد ساند أن معظم اليهود الحاليين هم من نسل شعوب اعتنقت اليهودية في مراحل مختلفة من التاريخ، مثل الخزر في أوروبا الشرقية، وليسوا أحفادًا مباشرين ليهود فلسطين القدامى. وبالتالي، فإن الادعاء القائل بعودة "شعب يهودي" إلى "أرضه التاريخية" هو خرافة سياسية أكثر منه حقيقة تاريخية.
إن الدولة الإسرائيلية، في ضوء هذا الفهم، لا تقوم على قومية طبيعية بل على مشروع أيديولوجي، يحاول خلق هوية قومية عبر أدوات الدولة والعسكرة والتعليم والدين. ولذلك، فإن استمرار إسرائيل في الاعتماد على الدين كأساس للهوية يضعها في تناقض داخلي متواصل، ويجعل منها حالة استثنائية وغير مستقرة في السياق العالمي للدول القومية الحديثة.
في المحصلة، لا يمكن للديانة أن تشكل بحد ذاتها قومية سياسية، وإذا حاولت ذلك، فإنها لن تنجح في خلق دولة قومية مستقرة إلا إذا ارتبطت بمكانها المقدس ونمت حوله عبر التاريخ، كما هو الحال مع تجارب قوميات دينية أخرى. أما في حالة إسرائيل، فإنها تبقى كيانًا يجمع الشتات على أساس ديني، دون أن ينجح في صهره بقومية موحدة، مما يكرس هشاشته ويجعل مشروعيته موضع تساؤل دائم.
..............
إن إسرائيل، رغم امتلاكها مؤسسات دولة، جيشًا، ونظامًا سياسيًا، لا تزال تعاني من ضعف في البنية القومية، حيث تفتقر إلى قاعدة ثقافية موحدة أو شعور قومي جامع، ما يدفعها للتمسك بالدين كعنصر توحيد قسري.