سعيد جودة طبيب جراحة العظام في مشفى كمال عدوان شهيداً
وليد الهودلي
عن أي الرجال نتحدّث؟ هل المطلوب من الطبيب أن يعالج الناس، وهو ومن يعالج على حافّة الموت؟ وهو محاط بأشدّ الناس عداوة وحقارة وانحطاطاً وتوحّشاً، يفرضون عليه ومن معه في مستشفى كمال عدوان حصاراً من الموت والهلاك والرعب يأتيهم من كل جانب، وسؤال كبير عن حجم العالم العربي والإسلامي، وكل الذين تخلّوا عن غزّة، وأداروا لها ظهورهم. ما الذي يمنع الدكتور سعيد جودة أختصاصي جراحة العظام من أن يلوذ بالفرار من فم الموت، ويذهب إلى حيث الأمان وراحة البال ورغد الحياة التي أعدت للأطباء في أحسن وأحدث مستشفيات العرب؟ لقد قدّم ما فيه الكفاية وأصيب مرّتين، كتب الله له النجاة بروحه، فلم لا يفرّ من هذا الموت القادم؟ فقد ابنه شهيداً ومع هذا أصرّ على الاستمرار بكل ما أوتي من قوّة وجهد ومواصلة الليل بالنهار.
كان يصارع الموت، موته وحياته ثمنها رصاصة طائشة من رصاص ينهمر كالمطر، وكانت الضحايا التي تأتيه تباعاً أيضاً ينازع الموت روحها من كلّ جانب، ولعل هذا التحدّي في قلب المعركة وثباته في صميم الدمار، وما أحدثته صواريخ الرعب في جوانب هذا المبنى تهدئ من روعه قليلاً على ما فقد من عائلته، ولعلّ إصراره يورد قلبه شعوراً بالانتصار على جبلّتهم النكدة بروحه الإنسانية العالية، هو بمثابة ردّ اعتبار برصيد يدّخره لآخرته، يعوّضه ما فقد في دنياه، لا عزاء ولا ثبات لمثل هذه الجبال الراسية إلا ما وقر في قلبها من قوّة إيمانية عالية، ويقين بأن ما عند الله خير وأبقى.
بقي الدكتور جودة الوحيد في تخصص جراحة العظام في هذا المشفى الذي جلّ زواره يحتاجون إلى هذا التخصص، بقي يقلّب حالة بعد حالة تأتيه من مجازر أسوأ ما عرفتهم البشرية، يضمّد الجراح ويجبّر العظام، ولا تعرف عيناه نوماً أمام هذا الحزن الدائم الذي يأتيه تباعاً من شعبه المنكوب.
كم كدّ واجتهد وثابر وسهر الليالي كي يصبح طبيباً متخصّصاً، وعندما دقّت ساعة قطف الثمر كان له أن يقطف ثمرة علمه في مكان تنتشر فيه رائحة الموت، مكان بين العامل فيه وسحقه بصاروخ قاتل أقلّ من الثانية، في ومضة يصبح كلّ ما سبق من كدّ واجتهاد على ما يزيد عن أربعين عاماً هباء منثوراً. هنا في مستشفى كمال عدوان يكون فيه الطبيب إلى الموت أقرب إليه من الحياة، ومع علمه وعلى سبق الاصرار والترصّد يصرّ على التموضع في هذا المكان، يتحوّل المكان إلى مقابر للأحياء، ولا تراوده نفسه التحوّل إلى مكان آخر أقلّ خطراً، وأقرب إلى الحياة من الموت، ومع أنه جاءته نذر الموت بإصابته مرّتين واستشهاد ولده تارة أخرى وفقدان كثيرين من أقربائه وأحبابه، ومع هذا يواصل الاعتكاف هنا. أيّ شهادة نالها وأمام أيّ شهيد نقف؟!
لم تخطئه رصاصات شرّ خلق الله إجراماً وتوحّشاً، يريدونه بعينه، كي يبقى المكسور مكسوراً دون جبر والجريح جريحاً دون من يضمّد جراحه، يا لكم من قتلة وسفلة! بلغتم من الانحاط ما لم يسبقكم إليه أحد، ألا تعلمون أن عجلة الحياة دائرة، ولا بدّ وأن تدور عليكم وتنقلب أعمالكم هذه حسرات عليكم؟
الدكتور سعيد جودة ليس رقماً ولا حشرة، إنّه قامة عالية وروح إنسانية عالية فذّة، قل مثيلها ولن تجد لها مكاناً بديلاً عن ذاك المشفى سوى جنة الرفيق الأعلى.
إلى جنات الخلد، هنيئا لك. هناك قطف الثمر.