طريق الحرية تبدأ بالتحرر من فكر الظالمين
مصطفى البرغوثي
يعرف كثير من المفكرين والمناضلين كتاب فرانز فانون الشهير "المعذبون في الأرض"، الذي يشرح فيه عقلية المستعمًِرين، وأساليب تكريسهم للعنف في قمع الشعوب المستعمَرة، بما في ذلك الأيدولوجيا التي تحرم على المُستَعمَرين حقهم في استخدام العنف المضاد ضد من يضطهدونهم.
ولو كان فانون الذي كرس حياته ونضاله وفكره لتحرر الشعوب وخصوصاً شعب الجزائر الذي كان يناضل للتحرر من الاستعمار الفرنسي، حياً، لوجد في سلوك الفاشية الإسرائيلية، والداعمين لها في الغرب، مادة خصبة لأكثر من كتاب.
والواقع أن المنظومة الإسرائيلية الصهيونية، وحتى قبل أن يكتمل نضجها كقوة فاشية، حاولت ترسيخ حدود وتقاليد ، وخطوط حمراء غير مسموح بتجاوزها، في علاقتها بالشعب الفلسطيني والشعوب الأخرى.
وهذه بعض أركانهـــا :-
أولاً :إن إسرائيل، وباستغلال ما تعرضوا له اليهود من اضطهاد لا سامي أوروبي، أو روسي، والذي وصل ذروته في الهولوكوست البغيض الذي نفذه النازيون في ألمانيا، تحاول احتكار صفة وصورة ورواية الضحية الدائمة في أي خلاف أو صراع لها مع أي طرف آخر وخصوصاً الشعب الفلسطيني.
ومضمون ذلك أن إسرائيل (الحركة الصهيونية) ، تبقى بريئة حتى لو ارتكبت جرائم حرب لا سابق لها ضد المدنيين.
بل انها تروج لفكرة أنها بصفتها "الضحية" الدائمة تملك رخصة للقتل والبطش والاضطهاد، ولا يحق لأحد انتقادها. وأن فعل فان تهمة اللاسامية جاهزة لتوجه ضده.
ثانياً :أن إسرائيل ورغم كونها كياناً يمارس الاحتلال والتطهير العرقي، لها حق الدفاع عن النفس، ولكن لا يحق لضحاياها امتلاك نفس الحق، ولا يمر يوم دون أن يخرج رئيس دولة أو رئيس وزراء غربي دون أن يؤكد "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس". دون ذكر حق الفلسطينيين في ذلك ولو مرة واحدة.
والمشهد هنا يبدو سيريالياً للغاية، إسرائيل التي هجرت 70% من الشعب الفلسطيني عبر المذابح والقتل والتهويد، ودمرت 520 قرية وبلدة فلسطينية، ثم استولت بعدوان عسكري على رؤوس الأشهاد، على ما تبقى من فلسطين باحتلالها الضفة الغربية وقطاع غزة، بالاضافة للقدس العربية، بل وأضافت الجولان السوري المحتل، لها حق الدفاع والهجوم والقصف والقتل، ولكن لا يحق للضحية الحقيقية (الشعب الفلسطيني والسوري واللبناني) الرد والدفاع عن نفسه وإلا اتهم بالإرهاب.
ثالثاً :إن إسرائيل في حالة افتقار مزمن للأمن، والحاجة للأمن هي ذريعة جاهزة في كل مفاوضات ومباحثات، ومجابهات لتبرير التعنت والعناد الإسرائيلي الذي أفشل تاريخياً كل محاولة للوصول إلى سلام في المنطقة.
رابعاً :في أي مواجهة أو معركة، وحتى لو وصل الأمر إلى قتل 51.000 فلسطيني بمن في ذلك 17 ألف طفل شهيد، من غير المقبول أو المبرر وقوع قتلى أو جرحى إسرائيليين. وحسب ذلك المنطق فان القتل والاصابات يجب أن تكون من جانب واحد، أي من طرف خصم إسرائيل أياً كان. فكل دم يهودي أو إسرائيلي مقدس، أما دماء الفلسطينين حتى لو كانوا أبرياء تماماً من المشاركة في أي فعل مقاوم فلا قيمة أو اعتبار لها.
وما زالت وسائل الاعلام الغربية الرئيسية تتبارى في ذكر، ووصف معاناة الأسرى الإسرائيليين الذين وقعوا بيد المقاومة الفلسطينية ولكنها في غالب الأحيان لا تذكر ما لا يقل عن 15 ألف أسير فلسطيني، حتى عندما يعدمون ميدانياً، أو يعذبوا حتى الموت، أو يزج بهم في معسكرات اعتقال مزدحمة وهم معرضون للتجويع والاذلال والقتل والاغتصاب والتحرش الجنسي.
خامساً : تحرّم المنظومة الأيدلوجية - الإسرائيلية و بعض الرسمية الغربية على الفلسطينيين حق النضال، ليس فقط بالكفاح المسلح (العنف المسلح)، بل وبكل الأشكال الأخرى بما في ذلك المقاومة الشعبية والمقاومة السلمية وحتى المقاومة بالكلام. ورغم أن القانون الدولي يشرع بشكل قاطع لمن هم تحت الاحتلال حق النضال بكل أشكاله، بما في ذلك الكفاح المسلح، ما داموا يحترمون ويلتزمون بالقانون الدولي والقانون الدولي الانساني، ويبتعدون عن الاستهداف المقصود للمدنيين والأطفال، فان الفلسطيني ومن يناصره معرض لبطارية جاهزة من الاتهامات إذا ما حاول مقاومة الظلم الذي يتعرض له.
وإذا مارس الكفاح المسلح سيوصف بالإرهاب، وإذا مارس المقاومة الشعبية سيتهم بالعنف، وإن قاوم بالكلام والكتابة سيتهم بالتحريض، وإن كان أجنبياً يتضامن مع الفلسطينيين سيتهم بالعداء للسامية، وإن كان يهودياً يتضامن مع الشعب الفلسطيني سيتهم بأنه يهودي كاره للنفس.
أما عندما يطرح على المسؤوليين الإسرائيليين السؤال عن العدد الهائل للمدنيين والأطفال والنساء والأطباء والصحافيين الذين يقومون بقتلهم فان الجواب جاهز بأن المسؤولية تقع على الفلسطينيين أنفسهم، أي أن الفلسطينيين مسؤولون عن جعل الإسرائيليين يقتلونهم، وأكثر الذرائع تزويراً للحقائق، الإدعاء بأن المقاومين الفلسطينيين يستخدمون المدنيين دروعاً بشرية. ولم تفلح عشرات الحالات التي استخدم فيها الجيش الإسرائيلي المدنيين الفلسطينيين العزل دروعاً بشرية، والتي تم توثيقها ونشرها وتقديمها للاعلام الغربي، في تغيير رأيه، أو تعديلا للرواية الإسرائيلية المضللة.
وتعتمد السردية الإسرائيلية على بطارية جاهزة من الإدعاءات والمفاهيم وحتى التعابير اللغوية الجاهزة دائماً للاستعمال، من الادعاء بأن إسرائيل هي الضحية، إلى إتهام الفلسطينيين بالإرهاب إلى تشويه كل صور النضال الفلسطيني.
ويبدو الهدف المركزي للدعاية الإسرائيلية وضع الفلسطينيين أو أي طرف يعارض إسرائيل في موقف الدفاع عن النفس، والاضطرار لتقديم المبررات والذرائع لما هو حق طبيعي لكل مظلوم بالدفاع عن نفسه. وما من شك أن جوهر العقلية الاستعمارية هو تحريم الحق في النضال والكفاح على من هم ضحيتها، ومحاولة تكريس شعور نفسي داخلي عميق لدى الضحايا بالدونية والشعور بالذنب. ويشبه ذلك الأساليب التي يتبعها الاضطهاد الذكوري للنساء والذي يحمل المرأة أو الفتاة المسؤولية حتى عندما تتعرض لجريمة الاغتصاب.
ولا يمكن كسر حالة الحصار الذهني والفكري التي يحاول المضطهدون فرضها على الضحية، إلا برفض المنهج الاستعماري من رأسه إلى أخمص قدميه ورفض سردية ورواية المضطهد أو المحتل.
إن أول خطوة في تحقيق الحرية من الاحتلال والاضطهاد هي التحرر الفكري من مقولاته ودعايته ومعاييره ومفاهيمه، بل ومن مصطلحاته التي يحاول فرضها.
وكما حرر فانون نفسه من تلك المقولات فان من واجب كل المناضلين الفلسطينيين، والمتضامنين معهم تحرير عقولهم منها ومن مخلفاتها الفكرية، وتلك هي البداية لشق طريق الحرية الحقيقيــة.