التعليم والديموقراطية

سبتمبر 7, 2024 - 08:45
التعليم والديموقراطية

د. فواز عقل

الديموقراطية ليست وصفة طبية يتناولها الإنسان لمدة معينة ثم يصبح ديموقراطياً، وهي ليست سلعة كالدواء والمعلبات والثلاجات يمكن استيرادها من الخارج، وليست كالملابس التي تكون قياساً واحداً للجميع، one size for all، فكل بلد يأخذ منها ما يناسبه. وهي ليست عصا سحرية تغير مصير الشعوب، وليست فطرية بل يمكن اكتسابها مثل باقي القيم كالنظافة والصدق والأمانة والاحترام والتسامح بالممارسة والقدوة. الديموقراطية في كثير من الدول هي وصفة انتخابية مؤقتة تنتهي بانتهاء الانتخابات، وهناك مجموعة من الأسئلة تثقل كاهلي وكاهل الكثيرين منها:
1. لماذا أصحاب الديموقراطية الذين اخترعوها يتخلون عنها حسب الظروف؟ وأن الديموقراطية يمكن أن تلبس أي ثوب وأي لون وأي مقياس فهي كالحرباء التي يتغير لونها حسب البيئة المحيطة.
2. ما هو الفرق بين الديموقراطية والبدوقراطية كما نشاهد؟
3. هل يمكن ممارسة الديموقراطية في مجتمع جاهل أمي؟
4. هل أساليب التدريس المتبعة في المدارس تقود إلى الديموقراطية في الصف والمدرسة والشارع؟
5. هل ما نراه من ممارسات ومواقف من دعاة الديموقراطية تشجع على التوجه نحو الديموقراطية في ظل ازدواجية المعايير؟ وإذا كانت كذلك فلا أهلا ولا سهلا بالديموقراطية، لأنه كما يلاحظ لا يوجد بيت مدمر أو حجر في غير محله أو طفل يتيم أو شخص فقير أو شعب مقهور جاهل أو أيدٍ مقطوعة إلا وستجد آثار الديموقراطية هناك.
ويعترف الكثيرون أن حضارة العصر الحالي تمتاز بالدهاء والدعاية واستغلال وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام لبرمجة عقل القارئ والمجتمع، وتم إقناعنا أن الديمقراطية والتنمية والتقدم والازدهار تعني الغرب، وكل من يريد أن يلتحق بالتقدم من الدول النامية عليه أن يقتدي بالنموذج الغربي، وعلى الرغم من هذه الكلمات الرنانة التي تعرضها وسائل التواصل الاجتماعي، فإن الديمقراطية والتقدم الذي يعرضه النموذج الغربي الذي يحمل في طياته سعادة البشرية هو نفس التقدم والديمقراطية التي تعاني منها البشرية، وعلى ما يبدو فإن هذه الحضارة خلقت الكثير من المعاناة للشعوب، وأصبح كما يقول المثل "لكل شعب حظه من المعاناة".
إن الديموقراطية لا تأتي من المواد العلمية فقط، بل هي نتيجة حتمية للعلوم الاجتماعية والإنسانية، كالفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس والتربية والفن.
ويرى فهد الشقيران أن الديموقراطية ليست الحل السحري، وأنا هنا سأعرض بعض آراء المفكرين حول الديموقراطية والجهل والتعليم:
الإمام الغزالي يقول: إذا ساد الجهل في قوم فإنهم للذل والخوف صيد، وإذا ساد الجهل والنفاق والبغي، فإن الدولة تهوي كسفن تغرق.
ويقول نيتشه الألماني: إن التربية هي أداة الدول للسيطرة والقمع وترويض الإنسان، وهي آلة التلاعب والتناور وتشوه وعي الإنسان وتلغي ذاته.
ويقول برتراند رسل: الديموقراطية ترتبط بالتعليم والتربية والثقافة، وهي صعبة التطبيق في شعب جاهل تكثر فيه الأمية، أما كارل بوبر فربط بين الديموقراطية ومستوى تحضر الشعب، أما بوند فيري فيتفق مع رسل في أن الثقافة الديموقراطية تسبق تطبيق الديموقراطية. أما هيجل الألماني فيرى أن تطبيق الديموقراطية في مجتمع تنتشر فيه الأمية ستكون ناقصة عرجاء ولكنه يرى أن وجود الديموقراطية أفضل بكثير من عدم وجودها، ويرى أن الناس تمارس الديموقراطية وتخطئ وتتعلم ويطالب بتطبيق الديموقراطية في أسرع وقت، وطالب بثورة علمية قبل ثورة عملية، إن المجتمعات التي تنتشر فيها الأمية والجهل ستكون مصداقية انتخاباتها غير شفافة وتفتقد إلى النزاهة، ومشكوك فيها لأن استقلال الناخب الذاتي واتخاذ القرار واختيار الشخص المناسب تتأثر بالحزب والقبيلة والعشيرة والعلاقات الاجتماعية والمصلحة الشخصية، لأنه لم يتعود على أخذ القرار بنفسه بشكل مستقل، وعندما تغلب القبلية والعشائرية والحزبية والصحبة على الانتماء للوطن والمصلحة العامة تصبح الديموقراطية مشكوكاً في نتائجها ولا تتمتع بالشفافية والنزاهة، وعندما يتم تأجير العقول وتغيب الضمائر، فاعلم أن الديموقراطية ليست لها مصداقية وتخلو من الشفافية والنزاهة.
يقول جون ديوي الأمريكي، أبو التربية الحديثة: إذا علمنا طلاب اليوم بأساليب الأمس فإننا سنسرق مستقبلهم، وهذه دعوة صريحة لاستخدام أساليب تناسب العصر والمستقبل، وقد وضع جون ديوي شروطاً يراها ضرورية لا يمكن إحداث التطوير الذاتي للفرد والمجتمع خارجها:
الشرط الأول، ربط المدرسة بحاجات الفرد والمجتمع، لأن المدرسة اليوم أصبحت تقود نشاطات المجتمع وتقوم بأدوار في غاية الأهمية.
الشرط الثاني، يتمثل بالاهتمام في الموضوعات العملية والمهنية، لأنها تجدد روح المدرسة وتربطها بالحياة، وإن لم تخدم المدرسة المجتمع فلا ضرور لوجودها.
الشرط الثالث، يتمثل دور العملية التعليمية في الديموقراطية من خلال الممارسة التي اعتبرها في كتابة الديموقراطية والتربية أسلوب حياة.
إن الاستعداد للتلقي يتعلمه الطالب عن طريق البيت أولا ثم المدرسة وهذا الأسلوب المتبع في التعليم والتربية والأهم من ذلك أن نوعية ما يلقن أو يلقم لم يساعد على تغيير عقلية الطالب ولم تحرر الطالب من التلقي والسرد والطاعة والحفظ، فالطالب يتعرض إلى مدخلات لفظية ونتائج مخرجات لفظية وهذا يرجع إلى أساليب وطرق التدريس التي لم تعد صالحة لهذا العصر ولا تخاطب العقل.
إن التلقين يضع الطالب في وضعية المتلقي السلبي المستهلك لما يلقنه المعلم عن طريق الإرشاد والوعظ والتهديد والعقاب وهو تعليم في اتجاه واحد من المعلم الذي يعرف كل شيء إلى الطالب الذي لا يعرف شيء ولا يشارك ولا يتفاعل ولا يناقش ولا يفكر في ما تم تلقينه.
التلقين هو أسلوب تسلطي في التعليم يقوم على القهر ويلغي عقل الطالب، أي أن الطالب يحفظ المعلومة كما هي ولا يتأثر بما تعلمه ولا يهتم بفهم ما تعلمه، بل يقوم بتخزينه وحفظه وتذكره واسترجاعه يوم الامتحان، وبدون تطبيق لا تصبح المعلومة مهمة للطالب. إن التلقين والتلقيم والتخويف والتهديد في المدارس لا يقود إلى الديموقراطية لأنها تلغي العقل، وتلغي النقاش، وتلغي الاقناع، وتلغي الحوار، وتلغي الاستقلالية عند المتعلم. يقول هربرت الألماني أن التربية تغدو طغياناً وظلمًا إذا لم تؤد إلى حرية عقل المتلقي، أي الطالب، والتربية الحديثة كما وصفها جون ديوي الأمريكي وباولو فريرو البرازيلي تضع الطالب في جو حواري وتساعد على نمو الشخصية وترسخ الاحترام وتتفح الأفكار، وقد تكون أداة لتحرير العقل أو ترويضه كما يقول نيتشه الألماني.
إن أساليب التلقين وثلاثية الحفظ والتذكر والتلقين تؤدي إلى عدم الفهم العميق، لأن الطالب يعتمد على الحفظ دون فهم المعلومة أو تحليلها، والتلقين لا يشجع على المشاركة، ولا يشجع على تنمية مهارات التفكير وحل المشكلات، ولا يشجع على تنمية مهارات التعلم الذاتي، والطالب يعتمد على المعلم، والتلقين لا يوفر فرصة للطالب للابتكار والإبداع، لأن دور الطالب يقتصر فقط على حفظ وتذكر وتكرار واسترجاع المعلومة.
التلقين أسلوب قائم على القهر، وأقول أن الطلاب لن يستوعبوا ألف ساعة من المحاضرات ما لم يعيشوها بأنفسهم، لأن التعليم قائم على التعلم و التجربة.
باولو فريرو البرازيلي يؤمن أن المجتمعات المضطهدة أينما وجدت في هذا العالم فهي حبيسة لثقافة الصمت الصفي الذي يجعل الناس معدومي القوة سلبيي الاتجاه، ويصبحون غير قادرين على تغيير واقعهم، ونادى إلى ما أسماه التربية الحوارية لبناء جيل حواري، ويؤكد فريرو على ثقافة الحوار ودعا إلى وجوب أن يكون التعليم حوارياً ديموقراطياً يقوم على المحبة للآخر ثم التواضع والإيمان بإنسانية الإنسان، وأن البشر طيبون. ويضيف كذلك إن البشر يستطيعون تغيير ظروفهم إذا اعتمدوا الحوار المتبادل، ويرى أن أزمة الحوار التي نعاني منها هي نتيجة حتمية لضعف ثقافة الحوار التي تسود المجتمع، ويرى أن التربية الحوارية تبدأ من البيت ثم المدرسة ثم المجتمع، ويرى أن المحروم منها داخل الأسرة سيكون عدوا للحوار وسيلغيه من منهجه وإن اضطر إليه أحياناً فسيعمد إلى تلغيمه قبل بدئه. أما عندما يتربى الفرد على الحوار فسيصبح محاوراً وسيكون الحوار منهجا له في جميع مواقفه وعلاقاته وحياته، وهنا لا بد من التفريق بين الطاعة وحسن الأدب والامتثال وحق الحوار وإبداء الرأي والتعبير عن القناعة والموقف بحرية تامة.
إن كثرة الضوابط افعل، افعل، لا تفعل، افعل هيك، افعل مثل أبو فلان، تقيد العقل. يقول مصطفى حجازي في كتابه التخلف الاجتماعي: إن مفهوم السلطة القهرية يتجاوز معناها السياسي إلى مفاهيم أضيق وأكثر قرباً من مجتمع المقهورين مثل الأسرة والمدرسة والعمل، فجميعها مجالات للقهر. ويرى أن أسباب الجمود الفكري والتخلف هو التعليم بالأساس لأنه قائم على التلقين وقهر المعلم والتسلط، ويرى حجازي أن أكثر الأفراد ذوباناً في الجماعة تعصباً لها هم في معظم الأحوال أشدهم عجزا عن الاستقلال والوصول إلى مكانة فردية وإلى قيمة ذاتية تنبع من شخصيته. ويقول لن يتغير حال جميع بلاد العالم الثالث ما لم يتغير الإنسان المقهور أولا وقبل كل شيء، ويؤكد ابن خلدون في مقدمته الشهيرة على ما أشار إليه حجازي ويرى أن قهر المعلم يفسد معاني الإنسانية لديهم. أقول إن صناعة الإنسان الحواري من خلال التعليم هي الحل، ولا يمكن لأي أمة أن تغير مصيرها ومستقبلها ما لم يكن هناك تغيير في الأفكار والمفاهيم التي تتبناها، إن الهدف النهائي للتعليم لأي مجتمع هو زيادة قدرة الفرد وخلق إنسان مثقف والمحافظة على بقائه واستمراره. وفي ظل الاهتمام الكبير الذي يوليه الفلسطينيون للتعليم أصبح من الضروري أن تركز تطوير المناهج على الرؤية المستقبلية للتعليم، ولم يعد مقبولاً في القرن الواحد والعشرين أن يقوم خريجو الجامعات خصوصاً كليات التربية بالتعليم بنفس الطريقة التي تعلموا بها، خصوصاً إذا كانت هذه الطريقة لا تلائم الطالب ولا الزمن الذي يعيش فيه الطالب ولا المجتمع، ولا يجوز أن تبقى مناهجنا تعتمد على آليات عفى عليها الزمن وتجاوزها العلم كأساليب تلقين التي تخرج طلبة أشبه بالآلات الصماء. نحن بحاجة إلى مناهج تركز على الحوار وتفتح العقول ولا تبرمجها ولا تدجنها، ويجب ترسيخ الديموقراطية في نفوس وعقول أجيال المستقبل لتصبح سلوكا يمارسه المتعلم في حياته اليومية، لا مجرد ألفاظ وكلمات تردد لا روح فيها وتنقل عن طريق الوعظ والرواية والإرشاد. إن بعض المناهج يتضمن كثيراً من المواد و الموضوعات المتنوعة المتعلقة بحقوق الإنسان والديموقراطية والقيم كالصدق والأمانة والانتماء، إلا أن المواد التعليمية، مهما تنوعت، لا يمكن أن تصنع وتخلق طالباً صاحب سلوك ديموقراطي، إذا افتقرت إلى البيئة الصفية والمواقف الصفية التي تمارس من خلالها.
إذا عاش الطالب في جو من الاحترام وتقبل الآخر والحوار ونبذ كافة أشكال القوة لحل خلافاته مع أقرانه، فإنه يتعلم أن يكون صادقاً متفهماً متقبلاً لهم. ولذلك يجب توفير بيئة صفية مرنة ممتعة جذابة شيقة حوارية يسودها التعاون والمشارمة والتفاعل.
وأخيرا أقول: ازرع فكراً تزرع نشاطاً، ازرع نشاطاً تحصد عادة، ازرع عادة تحصد سلوكاً، ازرع سلوكاً تحصد مصيراً، وأقول: نحن التربويين المحاورين أصحاب اليقظة، أصحاب البوصلة نصنع البوصلة للزمن التالي، ولا ننتظرها.

................
التلقين أسلوب قائم على القهر، وأقول أن الطلاب لن يستوعبوا ألف ساعة من المحاضرات ما لم يعيشوها بأنفسهم، لأن التعليم قائم على التعلم و التجربة.