الأفارقة.. من الاستعمار إلى محاولات الاندماج ومواجهة العنصرية

يوليو 18, 2024 - 10:03
الأفارقة.. من الاستعمار إلى محاولات الاندماج ومواجهة العنصرية

مروان اميل طوباسي

في مباريات بطولة أُمم أوروبا لكرة القدم التي انتهت قبل أيام قليلة، والتي تابعها العديد منا، كما في البطولات السابقة، والعديد من الدوريات الأوروبية، لربما في محاولة غير حقيقية للهروب من شاشات أخبار جحيم مآسي شعبنا اليومية إثر حرب الإبادة التي ينفذها الاحتلال.


لقد بات يلعب اللاعبون من أصول أفريقية أدواراً حاسمة في تحقيق الانتصارات لفرق الأندية والمنتخابات الأوروبية. هذه الظاهرة من وجود ودور الأفارقة في أوروبا لا تقتصر على كرة القدم فقط، بل تمتد إلى مجالات أُخرى مثل المشاركة في الانتخابات الأوروبية البرلمانية والبلدية، حيث يشارك الأفراد من أصل أفريقي، بل وعربي بنشاط ونجاح، ويصل عدد منهم إلى المواقع القيادية والتمثيلية، في محاولة لإثبات مكانتهم ودورهم كشعوب تعرضت للاضطهاد والاستعمار الأوروبي ضمن شعوب الدول التي تم اضطهادها عبر التاريخ.


العديد من أفراد تلك الشعوب الأفريقية أصبحوا اليوم عنصراً أساسياً في نجاحات مجتمعات بعض الدول الأوروبية التي ما زالوا يعانون فيها آفة العنصرية البيضاء الأوروبية من متطرفين اليمين السياسي والاجتماعي ممن يرفعون شعارات معاداة الأفارقة والأقليات الإثنية التي لجأت إلى أوروبا بفعل عوامل مختلفة، منها الحروب والفقر والبطالة، في محاولة للبحث عن حياة أفضل، كما فعل العديد من شباب غزة خلال العقد الأخير، في رحلات الموت عبر البحر واللجوء إلى جنوب أوروبا.

السياق التاريخي بين الاستعمار والهجرة

تسبّب الاستعمار الأُوروبي البشع لأفريقيا، الذي بلغ ذروته أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، في اضطرابات اجتماعية واقتصادية وسياسية كبيرة في المجتمعات الأفريقية. فقد قامت دول مثل فرنسا وبريطانيا وبلجيكا والبرتغال وهولندا بإنشاء مستعمرات، مستغلة الموارد والمصادر فيها للاستيلاء عليها من خلال فرض حكومات متعاونة وموالية ارتكبت أبشع الجرائم بحق الشعوب نفسها هنالك، واتباع أساليب الانقلابات وحروب القبائل التي أشاعتها دول الاستعمار سابقاً، وقد ترك إرث الاستعمار هذا آثاراً لا تمحى بسهولة حتى اليوم، بما في ذلك الهجرات القسرية، وإنشاء جاليات أفريقية في أوروبا، وما تبقى من بؤر التوتر والصراعات في افريقيا حتى الآن.


بعد الحرب العالمية الثانية، شهدت أوروبا موجات من الهجرة من أفريقيا، حيث سعى الكثيرون إلى حياة أفضل في القارة الأوروبية التي عمل الأوروبيين على إفقارها في سياق سياسات سيطرة الشمال على الجنوب، حيث ساهمت هذه الهجرات في تشكيل مجتمعات متماسكة من الأفراد ذوي الأصول الأفريقية في الدول الأوروبية، وبدأ أبناء هذه الجاليات في الاندماج والمشاركة في مختلف المجالات، بما في ذلك الرياضة والسياسة والاقتصاد.


كرة القدم وهي الرياضة الأكثر شعبية في العالم أصبحت منصة مهمة لأبناء الجاليات الأفريقية لإظهار مهاراتهم وإحداث تأثير كبير. اللاعبون من أصول أفريقية مثل كيليان مبابي في فرنسا، وروميلو لوكاكو في بلجيكا، ورحيم سترلينغ في إنجلترا وغيرهم الكثير أصبحوا نجوماً عالميين يلعبون دوراً محورياً في نجاحات فرق الدول الأوروبية أو أنديتها.


وتأتي هذه النجاحات في سياق تاريخي كانت الدول الأوروبية تسيطر على الأراضي الأفريقية وتستغل مواردها. اليوم، نرى مفارقة مثيرة للاهتمام، فأبناء هذه الشعوب المستعمَرة سابقاً يسهمون بشكل كبير في تحقيق الانتصارات والبطولات لهذه الدول، ويتربع عدد منهم على عرش البطولات ويستأثرون بالأداء الكروي بنجاح.

باتريس لومومبا والمقاومة ضد الاستعمار

وهنا لا يمكن الحديث عن التحول من الاستعمار إلى التحرر والاندماج والتعاون النسبي دون ذكر شخصيات تاريخية مثل باتريس لومومبا، الزعيم الكونغولي الذي قاد بلاده نحو الاستقلال عن بلجيكا. لومومبا كان رمزاً للمقاومة الأفريقية ضد الإستعمار الأوروبي، حيث دعا إلى الاستقلال التام ورفض السيطرة الاستعمارية، مما جعله رمزاً للكفاح الوطني الديمقراطي من أجل الحرية والكرامة والاستقلال.


كانت نظرته واضحة حول ضرورة استقلال بلاده والتحرر من الاستغلال والهيمنة الأوروبية، ولكنه دفع ثمناً باهظاً لذلك حيث تم اغتياله في عام ١٩٦١ بتورط المخابرات المركزية الأمريكية. وعلى الرغم من نهايته المأساوية تبقى رؤيته ومثاله مصدر إلهام للأجيال الأفريقية وقوى التحرر بالعالم ومنها حركتنا الوطنية الفلسطينية.


كما أنّ تجربة كفاح حزب المؤتمر الوطني في جنوب أفريقيا بزعامة نيلسون مانديلا ورفاقه ضد الأبرتهايد ونجاحهم في تحقيق إسقاطه، وتحرر شعوبهم نحو العدالة ما زالت أيضا ماثلة، في زمن تكرر فيه دولة الاحتلال تجربة التمييز العنصري بحق شعبنا من جديد.


ساهمت نجاحات اللاعبين من أصول أفريقية في تشكيل الهوية الوطنية في الدول الأوروبية بطرق جديدة. وأصبح هؤلاء اللاعبون رموزاً للتعددية والاندماج، وقد غيّروا نظرة العديد من الناس تجاه المهاجرين وأبناء الجاليات الأفريقية. الإنجازات التي حققها هؤلاء اللاعبون تعكس قيم التعاون والشمولية، وتعزز الروابط بين الشعوب المختلفة.

التحديات والمستقبل

ورغم النجاحات الكبيرة، لا تزال هناك تحديات تواجه اللاعبين والمواطنين من أصول أفريقية هنالك، بما في ذلك التمييز العنصري والتحيزات المجتمعية من جانب مؤيدي اليمين الأوروبي المتطرف والشعبوي المناهض للهجرة والتعددية والاقليات. بالإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من هذه النجاحات، لا تزال هناك نظرة استغلالية من بعض الدول الأوروبية تجاه أفريقيا. الانتقال من الاستعمار التقليدي إلى أشكال جديدة منه من خلال السيطرة الاقتصادية والسياسية، يظهر في العديد من السياسات والممارسات التي تنتهجها الدول الأوروبية تجاه الدول الأفريقية. الاستغلال الاقتصادي للموارد الطبيعية ومنها الذهب والماس، والشروط التجارية غير المتكافئة، والتدخلات السياسية، كلها تمثل أوجه جديدة للعلاقة الاستعمارية القديمة.


لذا، وبالرغم من أن أبناء أفريقيا يساهمون بشكل كبير في بناء ونجاح المجتمعات الأوروبية، فإن الطريق نحو تحقيق تعاون واندماج حقيقي ومتوازن لا يزال طويلاً. ويتطلب التخلص من أفكار التمييز العنصري الذي تتبناه أحزاب اليمين الأوروبي المتطرف والشعبوي والتي تحقق اليوم تقدماً في القارة الأوروبية يأخذها إلى المجهول من الصراع وتفتت وحدتها، واعترافاً بالحقوق المشروعة للدول الأفريقية وضرورة تحقيق العدالة الاقتصادية والسياسية.


في الختام، تعد قصة اللاعبين ذوي الأصول الأفريقية الذين يحققون الانتصارات للدول الأوروبية بمثابة رمز للتغيير والتحدي. إنها تعكس رحلة طويلة من الاستعمار إلى الاندماج نحو إنجاح أفكار التحرر والتعاون والأعتراف بالآخر، وتبرز أهمية التعددية والاندماج في بناء مجتمعات متقدمة أكثر قوة ووحدة. 

في نهاية المطاف، تسهم هذه النجاحات في تعزيز الفهم والتقدير المتبادل بين الشعوب والذي يتوجب على الشعوب الأوروبية الأصلية فهمه وإدراكه، ما يمهد الطريق لمستقبل أكثر إشراقاً للجميع وأكثر عدالة بين الشمال والجنوب من الكرة الأرضية. ومع ذلك، يجب على أوروبا أن تعيد النظر في علاقاتها مع أفريقيا، ليس فقط على مستوى كرة القدم، بل في كافة الجوانب لتحقيق تعاون حقيقي ومستدام مبني على الاحترام المتبادل، وحقوق الشعوب في المساواة والعدالة كما في تقرير المصير.

ساهمت نجاحات اللاعبين من أُصول أفريقية في تشكيل الهوية الوطنية في الدول الأوروبية بطرق جديدة. وأصبح هؤلاء اللاعبون رموزاً للتعددية والاندماج، وقد غيّروا نظرة العديد من الناس تجاه المهاجرين وأبناء الجاليات الأفريقية.