(زاوية مع الحياة) ممارسة شكر الذات

يوليو 10, 2024 - 12:18
(زاوية مع الحياة) ممارسة شكر الذات

فراس عبيد

يكدح الإنسان في هذه الحياة الأرضية، ويرهق نفسه وجسده وأعصابه وفكره، ويقدم ما يقارب نصف عمره هدية لأبنائه، من خلال تربيتهم وتعليمهم ومتابعة شؤونهم، وقد ينسى الإنسان أو يتناسى في غمار هذه الرحلة من الكدح والعطاء المتواصل، أن عليه الالتفات إلى ذاته ولو قليلا ليبرّها، ويسندها، ويشعرها بالحب، وليربت عليها، ويقول لها شكرا !


في جميع مراحل عمره، يحتاج الإنسان إلى من يقول له: شكراً على جهودك، وعلى عطائك، وعلى تضحياتك.. من قبل كل من حوله، ومن قبل مجتمعه.


ولكن اللافت أن كلمات الشكر والامتنان في بيئتنا العربية والفلسطينية، لا تقال للإنسان كثيراً بشكل منتظم، وممنهج، ومؤسس له ثقافياً واجتماعياً، وإن قيلت، فلا تقال بعرفان حقيقي.


من هنا، يحس الإنسان المعطاء أنه غريبٌ عن ذاته، وعمن حوله، وعن مجتمعه، وأنه مقصّر وما هو بمقصّر، وأنه يعطي كما لو أنه ماكينة صمّاء، فلا يُؤخذ عطاؤه بعين الاعتبار، ولا يكافأ حتى معنوياً.


ويرى علم البرمجة اللغوية العصبية، وهو من أهم العلوم الإنسانية الحديثة، أن أهم إنسان يجب أن يقول لك شكراً، هو أنت لا غيرك !


لأن هذا الشكر الصادر من الذات إلى الذات، يصدر من أعماق أحاسيسك المرهفة التي رافقتك في رحلة التعب والعطاء، وعاشت معك أدق التفاصيل التي أتعبتك، وأحزنتك، وأثّرت فيك. ولأنه صادر من معرفتك الكبيرة والواسعة بما قدمت، وفكرت، واجتهدت، وهو ما لا يمكن لأحد غيرك معرفته وتقديره. لذلك سيكون تأثير شكرك أنت لذاتك على كل عطائها، شكراً ذا فاعلية غير عادية، في إسنادها ومدها بطاقة معنوية ومادية مذهلة.

ولا يكتفي علم البرمجة بالتنظير، بل إنه يقدم لك خطوات عملية سهلة تقوم بها، وتحصل على نتيجتها دون تأخير. فهو يقول: قل لنفسك شكراً يا فلان (مهم أن تذكر اسمك) على ما قدمت من أعمال وجهود طيلة الأعوام العشرين، أو العشرة.. الماضية، ومهم أن تذكرها بالتفصيل. كذلك من المفيد جداً أن تقدم الشكر اليومي لنفسك على أفعالها البسيطة، وغير البسيطة، فتقول: شكراً لك يا فلان، لأنك أوصلت أبناءك اليوم إلى المدرسة، وشكرا لك يا فلان، لأنك تسوّقت احتياجات البيت، ولأنك قدت سيارتك باتزان، ولأنك اخترت ملابسك بعناية، ولأنك لم تبادل قلة تهذيب معك من غريب عابر في الشارع بقلة تهذيب مماثلة، ولأنك اخترت الحب بدل الكره والعنف في ذلك الموقف.. إلخ.


يجب التنويه إلى أهمية أن تكون وحدك، عندما تقدم الشكر لذاتك، وأن تكون في جو هادىء، وأن تكون نفسيتك مرتاحة، وأن تردّد الشكر بلسانك، أي بصوت مسموع.


والحق أنّي جرّبت تلك الممارسة كثيراً، ولا أزال أمارسها كل يوم. أختلي بنفسي ليلاً، وأراجع يومي، فأشكر ذاتي على ما أحسنتْ، وأقوّمها كذلك إن وقعتْ في أخطاءٍ، بالتنويه لها ألا تعيد ذلك الخطأ، وبتصحيحه إن أمكن، وبمسامحتها كخطوة أخيرة. كل هذا نقوم به في خلوة قصيرة، نتحكم نحن في مدتها حسب أهمية أحداث يومنا، ومدى تأثرنا بها. ولا أزال أعلّمها لغيري، فأحصل ويحصلون منها على نتائج فورية مدهشة، تعينني وتعين كل من أعلمهم تقنية "شكر الذات" على مواصلة رحلة الحياة بتقبّل واسترخاء، وبقدرة أعلى مما لدى كثير من الناس على احتمال أعبائها وصدماتها التي لا تنتهي !


إن قناعتي تتعمق كل يوم أن هذا المخلوق المسمى "إنسان" هو مخلوق عظيم، مكافح وصابر، فحتى ينتصب هذا المخلوق قامة وقيمة وطاقة، فيصبح "جاهزاً" لمواجهة الناس والحياة والعمل، كل يوم، بمظهر سويّ لائق مقبول، فإنه يكون قد مرّ بعشرات أو مئات الصراعات داخله وتغلّب عليها !


الله وحده.. يعلم كمّ الآلام والأحزان في قلوب الناس التي لا يمكنكم رؤيتها أبداً (لو فتحتم قلوبهم لأشفقتم عليهم)، وأثر الصراعات المضنية التي يخوضونها كل يوم، في غمار رحلة الحياة الأرضية.


أفلا تستحق ذواتنا الشكر والدعم والإسناد كل يوم، وكل ساعة، إن شئتم، على صمودها الأسطوري في رحلة الحياة العجيبة ؟!


مهما قال لك الآخرون: شكراً.. فلن تكون مثل كلمة شكراً التي تنطقها بفمك أنت، وتوجهها بوعي وبقناعة لنفسك!

الله وحده.. يعلم كمّ الآلام والأحزان في قلوب الناس التي لا يمكنكم رؤيتها أبداً (لو فتحتم قلوبهم لأشفقتم عليهم)، وأثر الصراعات المضنية التي يخوضونها كل يوم، في غمار رحلة الحياة الأرضية.