مَرض"الوطنّي الوحيد"
من أعراض هذا المرض أن المصاب به وكي يثبت وحدانية وطنيته يحتاج دائمًا إلى حذف الآخرين والتقليل من شأنهم وخصوصًا أولئك الذين قد يقاسمونه وطنيّته.
عانت الحركة الوطنية الفلسطينية وما زالت تعاني من ظاهرة "الوطني الوحيد" ويبدو أنّه مرض أو فيروس "الوطني الوحيد" كان وسوف يستمر إلى ما شاء الله.
هناك من يحتكر المشاعر الوطنية لأنّها تخصّه هو وحده فقط، ولا يمكن أن يعيشها غيره.
الوطني الوحيد معجبٌ بنفسه إلى درجة أنّه لا يرى ما يدور من حوله، والأنكى من هذا أنّه لا يريد أن يرى، وإذا رأى فهو يتجاهل، كي يبات ليلته مرتاحًا مطمئنًا بأنّه لا وجود لوطنيين غيره أو على درجته التي تقترب من درجة الشهيد.
من أعراض هذا المرض أن المصاب به وكي يثبت وحدانية وطنيته يحتاج دائمًا إلى حذف الآخرين والتقليل من شأنهم وخصوصًا أولئك الذين قد يقاسمونه وطنيّته.
فما من تنظيم ولا هيئة ولا مؤسسة ولا مشروع ولا شخصية ولا جمعية، إلا وله عليها ما يقال فيغمز من طرفها، ويقلّل من قيمة عملها، بل ويشكّك في نواياها ودوافعها ومن يقف وراءها.
فهذا داجن أو في مراحل أولى أو متقدّمة من التدجين، وذاك انتهازي مُحترف، وذاك لا يرى أبعد من أنفه، وذاك رجعي بامتياز، وذاك متخلّف، وذاك يتمسكن حتى يتمكّن، وذاك يتآمر مع الأعداء من تحت الطاولة، وتلك حالة مأزومة تتاجر في القضية، وآخر جبان لم يقدم للقضية شيئًا، يقول ما لا يفعل، يعني لا يوجد مخلوق في هذا الوطن أو خارجه ومن أي فئة كانت إلا ويجد له نقيصة ومذمّة، كل هذا كي يبقى هو الوطني الوحيد، ويلبّي رغبته في التميّز والتفوق على الآخرين، وكأنّ حضرته يستشهد مع كل شهيد ويعيش الأسر مع كل أسير ويجوع مع كل جائع، بينما الآخرون انتهازيون لا يستشهدون ولا يصابون ولا يؤسرون ولا يجوعون ثم يدّعون أنهم وطنيون.
هنالك انتهازيون وتجّار في القضية ورابحون وخاسرون، بل وخسروا كل شيء، وهنالك من يضحّون وهناك من يقبضون الثمن، وهنالك خونة، كلُّ هذا موجود، ولكن مرض "الوطني الوحيد" لا يقل خطورة.
وفي الواقع فإن الضرر الذي يسببه مرض الوطني الوحيد لا يقل عن مرض الانتهازيين الذين يهاجمهم، لأنّه يمارس نوعا آخر من الانتهازية، ويريد أن يخلي السّاحة كي يبقى وحيدًا يشار إليه بالبنان، وهذه ظاهرة ليست جديدة، بل وقديمة جدًا، وقد مورست في حقبة معينة سياسة "التكفير الثوري" لكلّ المختلفين، وحتى إلصاق صفة الخيانة والعمالة وقبض الأموال من وراء المحيط للمختلف.
هذا بالطّبع لا يخدم قضية، لأنّ الوطني الوحيد ضعيفٌ في وحدته، وسيكون مُنفّرًا غير مُؤلّف ومفرّق وليس مُجمِّعًا، وذلك بعدما أثار الشّكوك بكل الذين من حوله، وبث بينه وبينهم رياح الكراهية والغيرة وحتى الحقد والعداء والتنافر، وهذا سبب كبير للإحباط، وتعطيل لسلاح وحدة المقموعين والمضطهدين والواقعين تحت احتلال شرس يسعى لتجريدهم من إنسانيتهم.
الوحدة لا تعني أن يكون الجميع حاملين لنفس الفكر، وليس لدى جميعهم نفس القدرات على التحدي والمواجهة، ولا نفس مستوى الوعي. الوحدة هي أن تكون كلُّ هذه الأطياف مجتمعة على الهدف الأكبر وهو مواجهة الخطر الأكبر.
شعبنا متعدّد الاتجاهات والمذاهب والطوائف والشرائح الاجتماعية، ومتعدّد في مستويات الوعي، وهو مؤلف من فصائل وتيارات حزبية متعدّدة، ولكنّ أكثرية أبناء شعبنا غير منتمية لأي فصيل أو حزب أو تيار فكري.
ولا يمكن لشعبنا ولا لأيّ شعبٍ آخر أن يكون موحّدا في مشاعره وفي قدرات واستعداد أفراده للعطاء، ولهذا فإن العمل الوطني الصادق هو الذي يجمّع أكثر ما يمكن من مختلف الفئات وليس ما يفرّق بينهم.
مرض "الوطني الوحيد"، ممكن أن يعاني منه السّياسي القائد وغير القائد، والصَّحفي والكاتب والناقد الأدبي والتاجر وصاحب المهنة الحرة والعاطل عن العمل وحتى المناضل في الميدان.
هنالك الكثير مما يقال عن كلّ فصيل ومجموعة ومؤسّسة وجمعية وقيادي ومواطن عادي أو قيادي، وعن موقف وتصرّف سكان منطقة جغرافية، ولكنّ الشُّعور بالمسؤولية يفرض تنازلات لصالح سلّم أولويات، وهو الذي يجب أن يوجّه ويحدّد تصرفاتنا في مواجهة المخاطر الكبيرة الماثلة أمامنا، فالقضية في النهاية ليست تسجيل مواقف فقط، فالموقف يقاس بما حقّق لصالح القضية الأساسية، وهي قضية وجودنا واستمراره في وطننا، في مواجهة أشرس هجمة على شعبنا كلّه منذ النكبة حتى يومنا.