بمناسبة يوم الأسير: شهادة الأسير عز الدين عمارنة، السجون وعجائبها السبع؟!
تسرّب كثير من أخبار وأحوال الاسرى زمن هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزّة، وكان منها ما تقشعرّ لها الابدان وقد رأى الناس انعكاسات هذه الاهوال على وجوه وأجساد من أطلق سراحهم واضحة للعيان، نحل الجسد بشكل كبير وبدت الوجوه باهتة يرى فيها أثر العذاب ومرارة قهر السجان بصورة جليّة واضحة.
أمّا عن شهادة المعتقل الشيخ عز الدين عمارنة الذين لم يراعوا أنه كفيف البصر أم أنه مسنّ أو مريض أبدا، هكم في البداية لحظاته الأخيرة من هذه الحبسة المريرة:
نعق " الحوفيش" الممرّض على اسمه وهو في غرفة الانتظار الاخيرة حيث آخر محطة من محطّات هذه الحبسة المريرة، لقد مرّروه في ماكينة العذاب التي أعطته من تجلياتها ما لم يخطر على قلب بشر، والان في لحظاتهم السوداء الاخيرة هناك من قذائف الحقد ما يعدّ لهذه اللحظة، قد يبلغونك بتجديد الاداري، احتمال وارد يخرجك من هذه الغرفة التي يكدّسون فيها المعتقلين كما هو حال علبة السردين إلى حيث رحابة السجن حيث يعاد انتشارك بشكل آخر لا يقلّ كآبة ومهانة.
ولكنّه " الحوفيش" الممرض هل تذكّر أخيرا أن يعطيني دوائي الذي حجزه عني منذ السابع من اكتوبر، هل أصابته وخزة ضمير أو أراد أن يطبع في قلبي صورة مغايرة لتلك الصورة الشنيعة؟
تقدّمت واثق الخطى حتى إذا اقتربت من الطاقة اللعينة التي منها تؤتى أوامر تجديد الاعتقال. نعق من جديد:
- اقترب ايها الشيخ الجليل.
" ما هذا الاحترم، أكيد يريد تحسين الصورة ."
تشجّعت وتقدّمت حتى إذا صار وجهي قرابة وجهه بصق بكل ما أوتي من قوّة حاقدة وأتبع ذلك سيل من المسبّات التي لا يطاوعني قلمي لذكرها فأتعب قلوبكم بها. ثم انصرف وهو يقول: كي تتذكّرني جيّدا يا ابن ال ..... .
لقد كان لهذا العدوان على غزّة الأثر كبير على مضاعفة العذاب على أسرانا، وقعت الحرب ووقع سخطهم وقهرهم على السجون ومن فيها من معتقلين ومعتقلات، توحّشوا وأخرجوا كلّ ما في جعبتهم من شرّ وقمع وعدوان، وجدوا في السجون مكانا لتفريغ شهوة الانتقام وصبّ ما في صدورهم من أحقاد، ما يسمّى بوزير الامن القومي ابن غفير والذي أعلن مسبقا عن نيّته في استهداف السجون، هذا المتطرّف المجنون سلّموه رقاب أسرانا ليفعل بها ما تملي عليه أحقاده، ووجد في هذه الحرب فرصة ذهبية له، فالشارع الإسرائيلي يحظى بتعبئة فظيعة من الكراهية من قبل زعامته اليمينية المتطرّفة ومن قبل إعلامهم الذي أجمع على هذه التعبئة السوداء، فوجد الاسرى أنفسهم أمام فرق متوحّشة قد حظيت بذات التعبئة النازيّة الحاقدة وقد أفلتوها عليهم كما تفلت الكلاب الضارية على فريستها.
الشيخ عز الدين عمارنة كان أحد الاسرى الذين أطلق سراحهم وذلك بعد قضاء سنتين في الاعتقال الإداري، بدى أنه هرم وقد خطّت آلام السجن أخاديد في وجهه، وهن العظم واشتعل الرّاس شيبا وتقوّس الصدر وغارت عيناه التي لا يرى بهما عميقا في وجهه والأصعب من ذلك كثيرا تهدّج صوته وحديثه عن معاناة السجن بصوت فيه كل ما في الحياة من مرارة وألم وحزن.
تحدّث عن أوّل العجائب عن حجم الاهانات وخصّوا بذلك كثيرا ممّن اعتقدوا أن لهم مكانة سياسية أو يشكّل قدوة وقيادة لغيره، هؤلاء عجّبوا عليهم بتوجيه الاهانات التي تفنّنوا في رميهم بها، منها البصق عليهم ومسبة دينهم وربّهم وضربهم بالركل بالأرجل وتعمّد مسح الأرض بكرامتهم وتلقّيهم وجبات دائمة صباح مساء أمام بقيّة الاسرى. طبعا وقع العذاب على كلّ الاسرى بالضرب والتنكيل ولكن خصّوا بعض من اعتقدوا أنهم قادة بالمزيد من الإهانة والاذلال.
وتحدّث عن عجيبة البرد القارص الذي رافقهم في هذا الشتاء ليل نهار وحطّ كلّ أثقاله في أجسادهم النحيلة، فلا طعام يعطي بعض الدفء ولا ملابس ولا أغطية، سحبوا منهم ملابسهم الثقيلة والخفيفة وألقوها في حاويات الزبالة، تركوهم فريسة للبرد القارص الشديد، والذي لا يعرف برد السجون الصحراوية ( النقب ونفحة وريمون) لن يدرك حجم البرد الذي دخل أجسادهم، كنا قديما نستلم سبعة بطاطين، في الشتاء نلبس كل ما لدينا ثم نتغطّى بالسبعة بطاطين ومع ذلك يتسرّب الينا البرد، كيف بهم في الشتاء المنصرم بلا أغطية ولا ملابس سوى القميص والبنطال، وأسرى غزّة عراة، البرد عذاب دونه أيّ عذاب.
وتحدّث عن عجائب القمع خاصة الذي ترافق مع بداية الحرب على غزّة وكأنّهم قد فتحوا جبهتين لعدوانهم السافر جبهة في غزّة والثانية في السجون، كانوا بأعداد كبيرة إذا هجموا على قسم استفردوا به غرفة غرفة فتنزل هراواتهم على رؤوس المعتقلين بلا هوادة، فتسيل الدماء غزيرة وتبقى الجروح دون علاج أو تضميد لتتقرّح بعد ذلك ويبقى الألم طويلا، وكذلك ما يحدثونه من كسر للعظام خاصة عظام القفص الصدري وهتك نسيج العضل، يزرعون الألم المستدام وويل للذي يرفع رأسه أو صوته، يقابل ذلك بالمزيد من الضرب، وقد سقط شهداء نتيجة هذا الضرب الذي لا يعرف حدودا مثل المعتقل الشابّ ثائر أبو عصب الذي ضربوه حتى الموت. ومن أشكال القمع أيضا سحب الاغطية لأيام طويلة فتبقى الغرفة جرداء لا يجدون ما يدثّرهم لا على الأرض ولا على أجسادهم المنهكة.
وتحدّث عجائبهم مع المرضى والمسنّين خاصة ذوي الامراض المزمنة والتي تتطلّب تلقي الدواء بشكل دائم، هؤلاء تلذّذوا بعذابهم وحرمانهم من أدويتهم والتي أدت إلى استشهاد بعضهم مثل خالد أبو شاويش وعمر ضراغمة وعرفات حمدان الشاب مريض السكري الذي توفي بسبب عدم إعطائه دواءه لعدة أيام، الإهمال الطبي هو دأب السجون والذي راح ضحيته عشرات الشهداء منذ نشأة هذه السجون ولكنهم بعد السابع من أكتوبر ضاعفوا عدوانهم ونكّلوا بالمرضى وبلغ إهمالهم درجة كبيرة، فلا علاج ولا دواء حتى حبّة الاكمول التي كانت عماد علاجهم أصبحت عزيزة نادرة، هذا إذا أضيف إلى الوضع الصحّي الناتج عن سوء التغذية والبرد الشديد والضغط النفسي الفظيع، فالوضع أصبح لا يطاق وحياة الاسرى المرضى أضحت في خطر شديد.
ومن عجائب عذابات السجون أن لا تجد أية خصوصية للنساء في السجون، فالتنكيل والتعذيب طالهنّ بكلّ قسوة وضراوة وكان أفظعها جريمة حالتي الاغتصاب التي أفردت لها مقالا خاصّا بعنوان: " لم يعد الصمت محتملا"، وهذه بعد تسجيل شهادتهن سابقة خطيرة يجب أن تصل كلّ الافاق الممكنة قانونيّا وإعلاميّا، المرأة الفلسطينية في سجونهم ذاقت الامرّين ولم تحترم أية خصوصية، وكل العجب على مؤسسات المرأة المحليّة والعالمية التي تصمت صمت القبور على هذه الجرائم الفظيعة بحق المرأة المعتقلة في السجون الإسرائيلية.
أمّا عجيبة قطع الكهرباء والماء فهذه معاناة أضرّت بالمعتقلين كثيرا فلا بديل للكهرباء من اضاءة لدخول الحمّام بل هي العتمة الكئيبة والليل البهيم الذي يقع عليهم، أما الماء فلا يسعهم أن يشربوا إلا حين توفيرها ساعة أو ساعتين كل أربع وعشرين ساعة فلا ماء للشرب ولا للحمّام والذي يبقيه في هذه الحالة برائحة كريهة لا تطاق إذ يستخدمه من العدد ضعفي حالته الطبيعية، بدل ثمانية تجد ستة عشر لحمّام واحد دون مياه، هذه بحدّ ذاتها معاناة لا تذكر أمام الضرب والاهانة والتكسير ولكنها معاناة قاسية على مدار الأربع وعشرين ساعة.
ومن عجائب السجون هذه الأيام حالة الاكتظاظ الشديد الذي يضيف إلى حياة السجن كربات فوق كرباته، ومن المعلوم أن السجون في الآونة الأخيرة قد حقّقت استحقاق العدد المعقول في الغرف بما يتناسب مع مساحتها إلّا أنهم وبعد هذه العدوان نكثوا كلّ التفاهمات السابقة ومنها المزيد من الاكتظاظ فتفترش الأرض بين الابراش وتصبح الحركة صعبة جدا والتهوية قاسية ورائحة الغرفة قاتلة خاصة مع قطع المياه وحرمان الاسرى من الحمّام إلا أن يأتيه الدور بعد عدّة أيام.
ومن العجائب أيضا حركة المحاكم وزيارات المحامين والتي وضعت في طريقها كلّ العراقيل وأكدت هزلية محاكمهم خاصة محاكم الاعتقال الإداري واعتمادهم ليس فقط التقرير السرّي الذي دأبوا على الاستناد إليه وإنما هذه الأيام يكفي مزاج ضابط المنطقة وقراره الاعتقال لأتفه الأسباب أو ليظهر بأنه يتابع منطقته ويعتقل منها كثيرا بقبضة حديدية تحدث الإرهاب والردع المطلوب عدا عن التعبير عن روح الانتقام التي رافقتهم بعد السابع من أكتوبر.
هذا غيض من فيض ولكنها الشهادة التي يخرج بها كلّ الاسرى المحرّرين والتي تؤكد حالة الساديّة والروح الانتقامية التي وقعت ضحيتها سلطات الاحتلال المتوحّشة الغاشمة. والسؤال الكبير: هم غيّروا كثيرا ورفعوا درجة عدائهم عاليا فماذا نحن فاعلون هل نبقى في البكائيات وتحويل قضية أسرانا إلى حائط مبكى؟ هذا سؤال كبير لا أدّعي القدرة على الإجابة عليه وإنما هو المطلوب من القيادة الفلسطينية بكل درجاتها إن أرادت أن تبقى داخل المشهد.