فشل محاولات (إنشاء سلطة مدنية) بديلة للمقاومة

مارس 23, 2024 - 12:07
فشل محاولات (إنشاء سلطة مدنية) بديلة للمقاومة

منذ اليوم الأول لحرب الإبادة، الذي أعلن فيه غالانت عن عدم إدخال الماء والغذاء والدواء والكهرباء، أصبح واضحاً أن فاشية المستعمِر لن تقف عند حد، بل ستتجاوز حدوداً كثيرة، ربما لم يكن في الحسبان أنها يمكن أن تتجاوزها. هذا يتطلب على المستوى السياسي الاستراتيجي والنظري تصويب الفهم، لدى العديد من ابناء شعبنا وقواه وفعالياته، لجوهر المشروع الصهيوني ودولته في فلسطين. التجويع سلاح في حرب الإبادة، تلك حقيقة تأكدت بما لا يدع مجالاً للشك.

والإمبرياليتان الأمريكية والأوروبية ليستا خارج استخدام هذا السلاح، وإن بتفاوت، حتّمه، لا أخلاقية إنسانية لأي منهما، بل درجة ضغط الحركة الشعبية في الشارع تجاه سياسات تلك الإمبرياليات، ودور الإعلام الذي فضح الممارسات الصهيونية وكشفها للعالم. كما أن الفارق في استخدام التجويع كسلاح بين الصهاينة والأمريكيين لا يصل، ولم يصل، حد التناقض الجدي، كما قد يُفهم أحياناً من بعض المحللين والصحفيين.

دولة الكيان تقصف المتجمعين للحصول على المساعدات فيسقط مئات الشهداء في دواري الكويت والنابلسي، ومراكز وكالة الغوث التي تستقبل المواد الغذائية، وتغتال المسؤولين الشرطيين، المبحوح والبنا، اللذين ينظّمان، مع الفعاليات السياسية والمحلية، حماية وإيصال المساعدات للوكالة وتنظيم توزيعها.

بالمقابل، أمريكا وأوروبا تنفّذان مسرحية مفضوحة عالمياً، لإذلال وإهانة شعبنا، بإنزال المعونات جواً في خطوة تعد بمثابة موافقة على إغلاق المعابر البرية واعتباره أمراً واقعاً، رغم المطالبات والمناشدات من قبلهما بفتحها، دون ممارسة أي ضغط لفتحها، ما يحيل المطالبات تلك إلى كونها مجرد دعاية وعلاقات عامة لا أكثر لامتصاص النقمة العالمية.

صحيح ان توظيف التجويع كسلاح يستخدم لابتزاز المفاوض الفسطيني حول أية صفقة محتملة، وصحيح ايضاً أنه محاولة لفرض واقع يشطب وكالة الغوث، المؤسسة الأممية الأكثر قدرة على استقبال وتوزيع المساعدات، وأيضاً المؤسسة الأكثر تعرضاً للتآمر من قبل الصهاينة والأمريكيين لشطبها، نظرا لتمثيلها رمزية حق العودة. كل هذا صحيح، ولكن الصحيح ايضاً أن سلاح التجويع يستخدم كأداة لفرض (سلطة مدنية) حسب التعبير الصهيوني تتجاوز سلطة حماس، وقوى المقاومة، لصالح سلطة عميلة تتشكل من (العائلات والعشائر)، وتنسّق مع ضابط الإدارة المدنية، لتوزيع المساعدات، بغية منح تلك السلطة، وعبر الابتزاز، شرعية ما. توجه يعيد للإذهان مشروع المستشرق الصهيوني مناحيم ميلسون حول روابط القرى مطلع الثمانينيات، وفق مفهوم (محاصرة الريف للمدينة)، لضرب مكانة منظمة التحرير آنذاك لصالح بنى عشائرية مرتبطة بالاحتلال. حاولوا اليوم استعادة ذات البنية في غزة عبر سلاح التجويع.

هذا التوجه الاحتلالي تم قبره تماماً خلال أيام. أعلنت العائلات والعشائر موقفها الوطني الرافض للعب هذا الدور، وكان لافتاً إعلانها: ان المقاتلين أصلاً هم أبناء تلك العشائر والعائلات، فكيف إذاً يعوّل المستعمِر على وقوف العائلات والعشائر ضد أبنائها؟ من جانب آخر، وكما أفادت تقارير صحفية، تحركت قوى المقاومة سريعاً، وتحديداً تلك التي تملك امتدادات شعبية، وإن بتفاوت، كحماس والجهاد والشعبية والديموقراطية، وبالتعاون مع الأجهزة الشرطية لسلطة حماس، فشكلت، وبالتعاون مع العائلات، لجانا شعبية تضطلع بمهام حراسة الشاحنات ونقلها وتسليمها للوكالة وتوزيعها، ناهيك عن إضطلاعها بمهام خدماتية من جهة، ورقابية من جهة ثانية، بعد تزايد حالات البلطجة وسرقة المعونات وتجارة السوق السوداء.

كانت اللجان، كآلية (ضربة معلم) تأخرت لشهور، فقد كان ينبغي الشروع بها تماماً لحظة الشروع في القتال. ولكن المهم أن تشكيل تلك اللجان أخيراً وجه ضربة لمخطط الاحتلال بتشكيل سلطة مدنية عميلة له عبر ابتزاز الجياع واستخدام التجويع كسلاح.

لا غرابة ان يكون رد فعل المستعمرين على هذه الشاكلة. تريدون الغذاء، توجهوا لمن نعينه نحن ليقوم بالمهمة! لا للوكالة ولا للتنظيمات! هذا لسان حال المستعمرين. ولخلق هذا الواقع قصف المستعمرون مخزن مواد غذائية تابع للوكالة، واطلق الاحتلال نار مسيّراته على أفراد اللجان المشرفة على التوزيع، واغتال المسؤولين البنا والمبحوح. ولكن الأكثر أهمية ان مخطط المستعمرين لم يجد بين الحاضنة الشعبية مَنْ يندرج فيه ليكون جزءاً منه، فرغم حالة الجوع المستشرية لم تخضع تلك الحاضنة لمخطط المستعمرين، وبقيت متمسكة بموقف المقاومة وترتيباتنها وخياراتها.

لن ينجح اي من ترتيبات الصهاينة والأمريكيين في قطاع غزة رغماً عن الواقع الميداني المقاوِم، الذي فرض المقاومة كمعادلة لا يمكن تجاهلها، سواء في ترتيبات الحياة اليومية، بكل مأساويتها وتعقيداتها، أو في مواجهة ترتيبات (اليوم التالي) الأمريكية، عبر بوابة إصلاح سلطة أوسلو وتجديدها، والذي بدأ بتشكيل (حكومة التكنوقراط) كمطلب أمريكي.

لاستمرار المقاومة بلعب دورها السياسي والشعبي هذا، خارج ميدان القتال، عليها تعميق علاقاتها التنسيقية فيما بينها لانجاز المهام الخدمية والاجتماعية على المستوى الشعبي، بالضبط كما تفعل على مستوى ميدان القتال، فتنجح في تحقيق أهدافها على المستويين التكتيكي اليومي والاستراتيجي السياسي، وتقدم بالتالي نموذجاً لوحدة المقاتلين، وقدرة هذه الوحدة على حل المشكلات اليومية بديلاً للاستفراد والهيمنة اللذين سيوفران فرصة يحلم بها المستعمِر لإنجاح مخططاته.