عدالة دولية طويلة بطيئة بدون مخالب!

فبراير 21, 2024 - 11:59
عدالة دولية طويلة بطيئة بدون مخالب!

بتاريخ 29/12/ 2023 رفعت دولة جنوب أفريقيا دعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية (المحكمة ) حيث اتهمتها بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وفي 26/01/2024 أصدرت المحكمة قرارا تمهيديا تؤكد على التزام إسرائيل بضمان الإمتثال لاتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948 وضمان وأمن وسلامة المواطنين الفلسطينيين. وأمهلت المحكمة الدولة العبرية شهرا وتحديدا حتى 26/02/2024 من أجل تقديم تقرير للمحكمة عن الإجراءات التي اتخذتها في هذا الصدد.


وللتذكير كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 30/12/2022 قد تقدمت للمحكمة ذاتها بطلب رأي إستشاري لبيان الآثار القانونية المترتبة على الممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وقد تقدمت اثنين وخمسين دولة وثلاثة منظمات دولية، لإلقاء بيان حول هذا الموضوع. وقد حدد يوم الإثنين الموافق 19/02/ 2024 لبداية الإستماع حيث خصصت ستة أيام لجلسات الإستماع ، ثم تعود المحكمة للتداول حيث تبت في رايها الإستشاري المطلوب.


ولو قرأنا التواريخ السابقة بعناية وعين فاحصة، لوجدنا أن دولة جنوب أفريقيا بادرت لتقديم دعواها في نهاية العام الفائت بعدما تحققت من ارتكاب إسرائيل جرمة الإبادة وجمعت الأدلة والوثائق التي تثبت هذا الفعل المحظور. ولنقل أن دولة جنوب أفريقيا بدأت إعداد دعواها من بداية شهر نوفمبر (تشرين الثاني )، وقدمتها بعد اكتمالها شكليا في 29/12/2023. بكلمات أخرى استغرق إقامة الدعوى أمام المحكمة إلى يومنا هذا، أربعة شهور دموية كاملة ارتكبت فيها جرائم قتل تقترب من ثلاثين ألفا من المدنيين نساء وشيوخا وأطفالا، حيث لم تصدر قرارا بوقف إطلاق نار فوري. وما زال أمام المحكمة جلسة استماع يوم 26/02/2024، حيث تقدم إسرائيل تقريرها المطلوب والذي حتما سينكر قيامها باية جريمة إبادة ، وسيدعي حتما بأن القتلى هم من مقاتلي حماس والفصائل الأخرى. وفي هذا الوقت الإضافي من أجل انتظار جلسة الإستماع والتداول بعدها، سيقتل آلاف آخرين من المدنيين الفلسطينيين الأبرياء. وبغض النظر عن النقاش المستفيض الذي سيأخذ مجالا واسعا للمناورة فلن يكون متوقعا إصدار قرار تمهيدي آخر، قبل منتصف شهر آذار (مارس ) من عام 2024 لوقف الأعمال العدائية الإسرائيلية. لاحظوا معي أن المحكمة ستصدر قرارا تمهيديا آخرا، أما القرار النهائي في موضوع دعوى جنوب أفريقيا فمن المتوقع أن تستمر سنوات عدة حتى يصدر بها قرار نهائي، وكأنك تدور في حلقة مفرغة.


وبنظرة فاحصة أخرى على المدد الزمنية، كيف انتظرت محكمة العدل الدولية مدة عام وأكثر ليومنا هذا والمتوقع المزيد من الوقت، فقط لإعطاء مجرد رأي استشاري وليس حكما ملزما في طلب تقدمت به الجمعية العامة في آلآثار القانونية للإحتلال الإسرائيلي وحدد لها جلسة استماع بدءا من يوم الإثنين الموافق 19/02/2024.


نخلص إلى أن العدالة الدولية المتمثلة في محكمة العدل الدولية القابعة في لاهاي التي نكن لها تقديرا عاليا واحتراما كبيرا على القيام بوظيفتها القانونية القضائية، إلا أننا نجد أن إجراءاتها طويلة وبطيئة تستغرق أعواما بينما الضحية تنزف دما وألما وعذابا وجوعا وعطشا ودمارا ، وهي ليست البلسم الشافي لهم على المدى القصير ولا على المدى المتوسط ولا على المدى الطويل. وللموضوعية يجب أن نقرر أن المحكمة ليست هيئة سياسية بل هيئة قانونية، لذا عليها التريث في إصدار أحكامها. وبالتالي عليها الإستماع لبينات وإفادات وخبرات ومناقشات ووزنها وقبولها ورفضها ودفوعها وطعونها وتأجيلات وقرارات تمهيدية ونهائية. ومن نافل القول أن المحكمة لها إجازاتها وظروف قضاتها الصحية الذين هم من متأخري العمر.


لنفترض أن المحكمة استطاعت أن تتخذ قرارا تمهيديا بعد نصف سنة من النزاع الدموي، أو بعد سنوات من نشوبه، فماذا سيكون مصيره وهو الملزم قانونا عملا بنظام المحكمة. اغلب الظن أن دولة مثل إسرائيل لن تنفذه وستورد كل حجج الأرض لعدم تنفيذه وهي من الآن تبشر بذلك. وإذا رفع الموضوع لمجلس الأمن وهذا سيستغرق وقتا وزمنا وألاعيبا، فهناك ما يسمى بحق النقض من خمس دول ليشل تنفيذ قرار المحكمة. والكلام هنا ليس عاطفيا أو معنويا، فله سوابق، فقد رفضت إسرائيل تنفيذ الرأي الإستشاري للمحكمة الصادر في عام 2004 بشأن الجدار العنصري. بل قامت محكمتها العليا بتفنيد قرار محكمة العدل الدولية. وها هي قد مضت عشرين عاما على صدور الراي، ولم تتحرك الجهات القانونية ولا السياسية في كل الدول التي تدعي احترام القانون الدولي زمن السلم أو زمن الحرب إلى تنفيذ هذا الرأي الإستشاري الذي هو بمثابة قرار قانوني قضائي.


رب قائل من بعيد ، إذا كانت العدالة الدولية بهذا الشكل، فلم هذا التدافع والإشادة والزهو من كثير من السياسيين والقانونيين والكتاب والصحفيين، بقرار المحكمة التمهيدي الذي خلا من وقف إطلاق النار أو وقف جميع الأعمال العدائية، وطالب بالإفراج الفوري عن جميع " المخطوفين الرهائن بدون يد أو شرط "، ويتيح مزيدا من أعمال الإبادة، ما دام سيستغرق زمنا طويلا. يبدو أن الإجابة تكمن في ضعف المتلقي وعجزه عن نصرة الحق ، ورفد المستغيث بوسائل القوة، وبالتالي يبحث عن أي إسناد ولو كان أدبيا من أجل قوته المعنوية أي كالضعيف الذي ليس له من المرجلة نصيب.


تعالوا، نأخذكم بعيدا لحدث ما زال عالقا في ذاكرتي كأنه اليوم. حينما غزا صدام حسين العراق للكويت عام 1990. فورا تداعى مجلس الأمن وصدرت له قرارات بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وهو فصل الجزاءات بينما لم تحظ القضية الفلسطينية بقرار واحد بموجب الفصل السابع، وتم بموجبها حظر الطيران والسفر جوا للعراق والتجارة والدواء له. ولم يكتف بذلك ، بل قام مجلس الأمن عملا بميثاق الأمم المتحدة، بتشكيل جيش أممي من أكثر من 32 دولة منها مصر وسوريا والسعودية بقيادة أمريكي ( شوارزكوف) ، من أجل تحرير الكويت من الجيش العراق، وهذا ما حصل خلال عام.


هذا ليس انتقاصا من العدالة الدولية ووظيفتها وأنا المدافع عن القانون بكل فروعه، لكن العدالة الدولية التي وضعها فقهاء الغرب واشبعونا دروسا وتلقينا لها، ليست للاسف سوى وسيلة من وسائل السياسة، ولنا في المحكمة الجنائية الدولية ومدعيها العام كريم خان اسطع مثال. ولعل طول وبطء وتراخي إجراءات محكمة العدل الدولية وطول إجراءاتها حتى في موضوع حياة أو موت الضحايا، ما يعيق وظيفتها بتحقيق الأمن والسلم والعدالة الدولية، فلا مكان للضعفاء في هذا الكون!!!