عدالة دولية غير متوازنة!

يناير 29, 2024 - 12:53
عدالة دولية غير متوازنة!

انتظر الشعب الفلسطيني وكل محب للسلام على أحر من الجمر، صدور قرار محكمة العدل الدولية "المحكمة" التمهيدي الإحترازي. ورغم تقديرنا واحترامنا لكثير من النقاط التي تضمنها القرار ، الصادر في السادس والعشرين من شهر كانون الثاني/ يناير من عام ألفين وأربعة وعشرين، بشأن الدعوى المقدمة من جنوب أفريقيا حول الإبادة ضد الشعب الفلسطيني بتاريخ 29/12/2023، إلا أن هذا القرار كان غير متساو ولا متناظر مع قرار مماثل صادر من ذات المحكمة وفي ذات الموضوع بالشأن الروسي الأوكراني بتاريخ 16/3/2022، وكأن هناك تمييزا بين الحالتين رغم تشابه موضوعهما، أو تراخ بالشأن الفلسطيني، أو ضغوطا خفية.


فذات المحكمة تقدمت إليها أوكرانيا بدعوى بتاريخ 27/2/2022، بشأن تلاعب روسيا بموضوع الإبادة الجماعية لتبرير عدوانها العسكري. وبعد سبعة عشر يوما فقط لا غير ، أصدرت تلك المحكمة قرارا تمهيديا ضد روسيا. وهي فترة قياسية وهي حتما أقل من الفترة، التي استغرقتها لإصدار قرار بشأن الدعوى الجنوب إفريقية ، والتي استغرقت المحكمة سبعة وعشرين يوما. أي أن هناك فارق عشرة أيام بين الحالتين والقضيتين، مما يستدعي التساؤل عن هذا الفارق الجوهري في ظرف بالغ الدقة والحساسية. وهذا قرار يحمل طابع الإستعجال الذي يجب أن يراعى، ويحمل طابع الحيوية والضرورة لتعلق حياة البشر به، وليس قرارا يمكن أن يتأخر لبضعة أيام لأنه يتعلق ببضائع أو بظروف جوية أو تأمين أو مال. ونحن لا نتحدث عن القرار النهائي في الدعوى بل عن القرار التمهيدي الإحترازي.


ليس هذا فقط، بل إن المحكمة ذاتها كانت قد صدرت قرارها بشأن أوكرانيا، بأن توقف روسيا جميع أعمالها العدائية تجاه الأولى بشكل فوري، في حين أن قرار المحكمة التمهيدي الإحترازي تجاه الشعب الفلسطيني، جاء خلوا من أمر إسرائيل بوقف إطلاق النار الفوري كما حدث مع روسيا. وما لبث أن تبرع الكثيرون، بالقول أن وقف إطلاق النار ليس من اختصاص المحكمة، بل من اختصاص مجلس الأمن أوغيره، ونسوا بأن المحكمة ذاتها كانت قد أصدرت مثل هذا القرار بل أقوى منه في عام 2022 أثناء الحرب الروسية الأوكرانية. وبالتالي أخلت المحكمة بمبدأ المساواة بين القضيتين وميزت دونما داع بينهما.

 متجاهلة خيبة الأمل التي خلقتها لدى الكثيرين من أبناء الشعب الفلسطيني والشعب الجنوب أفريقي والشعوب المحبة للسلام. فضلا أننا لوعدنا لنصوص ميثاق المحكمة، فلا نجد أي نص يمنعها من تبني مثل ذلك القرار الذي طالبت به حكومة جنوب أفريقيا ذاتها في دعواها وهو أمر في صلب اختصاصها. بل إن اختصاصها يشمل جميع المسائل التي المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة. ومن نافل القول أن ميثاق الأمم المتحدة يزخر بمثل هذه الإجراءات لوقف العدوان.


استندت المحكمة في قرارها بوقف الأعمال العدائية الروسية بشكل فوري، إلى أسباب متقاربة ومشابهة للعدوان الإسرائيلي في قطاع غزة، فلماذا لم يتساو الحكم والإجراء بين الحالتين، وتصدر قرارا فوريا بوقف الأعمال العدائية الإسرائيلية كما هو الحال مع أوكرانيا. فقد ذكرت المحكمة في تبريرها لإصدار قرار تمهيدي لوقف الأعمال العدائية الروسية فورا، إلى افتراض أن هذه الأعمال على الأراضي الأوكرانية لا بدّ أن تؤدي إلى خسائر في الأرواح، وإلحاق أضرار نفسية وجسدية بالأشخاص، وأضرار مادية بالممتلكات والبيئة. وأردفت المحكمة بأن الهجمات الروسية المستمرة على المدنيين الأوكران، تخلق ظروفا معيشية صعبة للسكان المدنيين، حيث لا يحصلون على الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء ودواء وتدفئة بل إن كثيرا منهم سيحاول الفرار من المدن غير الآكمة في ظل ظروف خطرة وغير إنسانية.


هذه الظروف التي تحدثت عنها المحكمة في النزاع الروسي الأوكراني أقل بكثير مما تعرض ويتعرض له الشعب الفلسطيني في قطاع غزة وأثبتها محامو جنوب أفريقيا وموظفو الأمم المتحدة في تقاريرهم، واقتنعت بها المحكمة وبررت اختصاصها لذلك. بل إن الضحايا الفلسطينيون أكبر بكثير من الضحايا الأوكرانيين، وبخاصة الأطفال والانساء والشيوخ سواء وفق التعداد أو المعاناة أو الزمن ، سواء على صعيد الماء أو الغذاء أو الدواء أو التنقل. بل إن المحكمة لم تخصص المستشفيات المساجد والدارس والكنائس وتدميرها وقصفها بفقرة خاصة، والترحيل القسري، وهي أخطر من كل ما ذكره قرار المحكمة بالشأن الأوكراني.


هذا أمر يستدعي التوقف عنده، وبخاصة أن القرار بالشأن الروسي الأوكراني لم يمض عليه وقت طويل، وما زال منعشا لأدمغة القضاة الخمسة عشر، وما كان لهم أن ينسوه، وكان عليهم أن ينسجوا على منواله. صحيح أن المحكمة لا تتبع في عملها نهج السوابق القضائية الأنجلو ساكسوني بل اللاتيني، وبالتالي قراراتها السابقة،هي غير ملزمة لها. ولكن إن خالفتها، في رأيي، فعليها أن تبرر وتعلل سبب هذه المخالفة أو الرجوع عنها.


رب قائل، وأعتقد أنه تفسير سليم للقرار، وهو أمر تبنته وزيرة خارجية جنوب أفريقية ودعت إليه، أنها كانت تود من المحكمة أن تقرر بشكل صريح وقفا فوريا لإطلاق النار، لكن طلب المحكمة من الجانب الإسرائيلي أن تتوقف عن الأعمال الواردة في المادة الثانية من إتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948، لا بد أن يتضمن وقفا لإطلاق النار الفوري، أو هي على الأقل، متضمنة إياه بشكل ضمني، وإلا كيف سيطبق هذا الأمر القضائي النظري ، إن لم يترجم لواقع عملي على الأرض. فهذه المادة تفسيرها العقلي والمنطقي يقضيان، فعليا بحظر قتل المدنيين الفلسطينيين، و/أو إلحاق أذى جسديا أو روحيا خطيرا بهم، و/أو إخضاعهم بشكل عمدي لظروف معيشية تهدف لتدميرهم كليا أو جزئيا، و/أو نقل أطفالهم عنوة لجماعة أخرى، أو فرض تدابير تحول دون إنجابهم أطفالا، سواء عن طريق التحريض أو الإشتراك أو التدخل أو التآمر أو الشروع الناقص أو التام في كل ذلك من أفعال. ونلاحظ من جانبنا أن المحكمة طالبت إسرائيل بالإمتناع عن هذه الأفعال، بصيغة الوجوب والإلزام، واستعملت كلمة قوية باللغة الإنجليزية صيغ هي يجب وهي لا تترك مجالا للتخيير أو التردد أو التلكؤ.


فقرة مزعجة تستوجب النقد، أوردتها المحكمة وأكدت عليها وعلى استعجالها بدون طلب وبعدم دقة تتصل بالأسرى الإسرائيليين، وقد اسمتهم " الرهائن المخطوفين " الإسرائيليين يوم السابع من أكتوبر، ودعت إلى الإفراج عنهم فورا وبدون أية شروط مسبقة. وهذا أمر خطير انزلقت إليه المحكمة ، إذ كيف ذكروا الإسرائيليين ولم يذكروا ستة آلاف فلسطيني تم اعتقالهم بعد السابع من أكتوبر وحرموا من جميع حقوقهم الأساسية الإنسانية ولم يعترف بوضعهم القانوني. وكيف لمحكمة قبل أن تنتهي الأعمال العدائية ويوضع حد لها بأن تطالب بالإفراج عن المدنيين والعسكريين على حد سواء من طرف واحد في الصراع فقط. وكيف لها أن تسمي الأسير الجندي بالمخطوف، هذا يناقض أبسط القواعد القانونية في قانون جنيف ولاهاي. ويجب أن لا نخلق للمحكمة الأعذار والمبررات لتقوم بهذا العمل غير القانوني.


هذا القرار قبل الدعوى الجنوب أفريقية، ورفض الدفع بعدم الإختصاص الذي أثارته الحكومة الإسرائيلية. هذا القرار وضع وأجبر إسرائيل أمام عدالة دولية هامة لأول مرة. هو منحها فترة شهر واحد بل أقل لتقدم للمحكمة تقريرا عن مضمون الأوامر التي طلبتها منها المحكمة وكيفية تنفيذها وهو مقيد لتهربها. قرار استند للشهادات الدولية ومنظماتها، وفند الأقوال والمزاعم الإسرائيلية. هو قرار تم تبنيه تقريبا بالإجماع وهذا أمر حسن. قرار يدعو للإمتناع عن أي فعل من أقعال المادة الثانية الخاصة بالإبادة.


يقال، ما لا يدركه كلّه لا يترك جلّه، هذا هو وضعنا مع هذا القرار القضائي الملزم للدول وأولها إسرائيل. قرار جيد في مجمله، لكنه لم يلب جميع متطلباتنا، بل أفسح المجال للمناورة الإسرائيلية، وبه نواقص ولا يستأهل الأهازيج والمديح المفرط .