الأديب الذي لم يتاجر بالقضية
بقلم: المحامي علي أبو حبلة
الأديب الذي لم يتاجر بالقضية
بقلم: المحامي علي أبو حبلة
في زمنٍ ازدحمت فيه المنابر بالضجيج، وتحوّلت فيه القضية الفلسطينية عند كثيرين إلى شعارٍ موسمي، وبضاعةٍ لغوية تُستثمر في سوق المزايدات، يبرز أولئك القلائل الذين حافظوا على شرف الكلمة، وكتبوا فلسطين بوصفها قيمة أخلاقية وإنسانية لا مشروعًا للارتزاق ولا سلعة للمتاجرة. من بين هؤلاء، تقف الأديبة الراحلة منتهى عبد الله سمارة نموذجًا نادرًا للأديب الذي لم يُثقِل الجمال بالادّعاء، ولم يُحمِّل القضية ما ليس فيها، بل كتبها بصدق، وكتب الإنسان من خلالها.
لم تجعل منتهى سمارة من القضية عبئًا على النص، ولم تستخدم الوجع الفلسطيني بوصفه مادة استدرار أو وسيلة شهرة. لم تتاجر بالألم، بل حوّلته إلى وعي، وإلى سؤال أخلاقي مفتوح حول الإنسان، والحرية، والعدالة. ولهذا، لم تكن كتابتها صاخبة، لكنها كانت عميقة؛ لم تكن استعراضية، لكنها كانت صادقة؛ ولم تكن آنية، بل قابلة للبقاء.
فلسطين في نصها: حضور بلا استعراض
كتبت منتهى فلسطين لا بوصفها شعارًا، بل تجربة إنسانية مركّبة. لم تُسقِط على النص خطابًا سياسيًا مباشرًا، ولم تختزل الوطن في مفردات جاهزة. فلسطين عندها كانت الأم، والمرأة، والمنفى، والذاكرة، والهشاشة، والقوة في آنٍ واحد. كانت فلسطين سؤالًا أخلاقيًا قبل أن تكون موقفًا سياسيًا، ولهذا جاءت كتابتها أكثر صدقًا وأبعد أثرًا.
في نصوصها، لا نقرأ فلسطين بوصفها ضحية دائمة فقط، بل بوصفها كيانًا حيًا يُقاوم بالمعنى، بالوعي، وبالحفاظ على إنسانية الإنسان في مواجهة آلة القهر. وهذا ما ميّزها عن كثيرين جعلوا من القضية منصة خطابة، لا مشروع وعي.
المرأة: من الهامش إلى جوهر الإنسان
لم تكتب منتهى سمارة المرأة بوصفها شعارًا نسويًا منفصلًا عن السياق، ولا باعتبارها خصمًا للرجل، بل كتبتها من عمق الإنسان. المرأة في نصها ليست مجرد موضوع، بل ذات فاعلة، تشعر، تفكّر، تخطئ، وتقاوم. لم تقع في فخ الخطاب الانفعالي، بل قدّمت صورة المرأة بوصفها مرآة للمجتمع، وللمنفى، وللتشظي الداخلي الذي يعيشه الفلسطيني في كل مكان.
وهنا تتجلّى أهمية تجربتها: فهي لم تفصل بين فلسطين والمرأة، ولم تجعل إحداهما وسيلة لتلميع الأخرى، بل رأت فيهما معًا تعبيرًا عن معركة واحدة: معركة الكرامة الإنسانية.
أدب المنفى: الذاكرة في مواجهة النسيان
رحلت منتهى سمارة جسدًا، لكنها بقيت صوتًا شاهدًا على جيلٍ كتب فلسطين من المنفى، لا بوصفه حالة جغرافية فقط، بل حالة وجودية. المنفى في نصها ليس مكانًا بديلًا، بل جرحًا مفتوحًا، ووعيًا مضاعفًا، وقلقًا دائمًا من فقدان الذاكرة.
ولعل القيمة الأعمق في تجربتها أنها لم تتصالح مع المنفى، ولم تروّضه لغويًا، بل أبقته سؤالًا موجعًا، دون أن تحوّله إلى مادة بكائية. كتبت ببرودة الوعي، لا بحرارة الاستعراض، فكان نصها أكثر قدرة على النفاذ إلى القارئ.
أخلاق الكلمة في زمن الابتذال
في زمن تحوّل فيه بعض “الأدباء” إلى تجّار مواقف، وبعض “المثقفين” إلى سماسرة وجع، تبرز تجربة منتهى سمارة بوصفها تذكيرًا صارمًا بأن الكلمة موقف أخلاقي قبل أن تكون أداة تعبير. لم تبحث عن التصفيق، ولم تلهث خلف الجوائز، ولم تساوم على صدقها. ولهذا، بقي نصها نظيفًا، وبقي اسمها مرتبطًا بالمعنى لا بالضجيج.
إن استعادة تجربة منتهى سمارة اليوم ليست فعل وفاء شخصي فحسب، بل ضرورة ثقافية. فهي تذكير بأن القضية الفلسطينية لا تحتاج إلى من يتاجر بها، بل إلى من يحميها من الابتذال؛ وبأن الأدب الحقيقي لا يُقاس بعدد الشعارات، بل بقدرته على إنتاج وعي، وحفظ الذاكرة، وصون إنسانية الإنسان.
خاتمة
منتهى عبد الله سمارة لم تكن كاتبة عابرة في سجل الأدب الفلسطيني، بل صوتًا أخلاقيًا هادئًا في زمن الصراخ. رحلت، لكن نصها باقٍ، لا لأنه كتب عن فلسطين فقط، بل لأنه كتب فلسطين بصدق، وكتب الإنسان دون تزييف. وهذا، في حد ذاته، أعلى درجات الانحياز للقضية.
المحامي علي أبو حبلة





