قراءة تحليلية في قرار الرئيس الفلسطيني بشأن نظام انتخاب البلديات والمجالس القروية
الكاتب: ربحي دولة
الكاتب: ربحي دولة
يشكّل قرار الرئيس الفلسطيني بإصدار قانون ينظّم انتخابات البلديات والمجالس القروية محطة مهمة في مسار تطوير منظومة الحكم المحلي، لما يحمله من تغييرات جوهرية في آليات الترشح والاختيار والتمثيل. فقد اعتمد القرار على نظام الترشيح الفردي في المجالس القروية، وعلى نظام القائمة النسبية المفتوحة في البلديات، وهو تحول يعيد الاعتبار لدور المواطن في اختيار ممثليه بصورة مباشرة وأكثر شفافية، ويمنح العملية الانتخابية بعدًا جديدًا يستجيب للحاجة الملحة إلى تجديد الحياة المحلية وتحديث أسس المشاركة الشعبية.
إن اعتماد الترشيحات الفردية في المجالس القروية يعيد للناخب قدرة كانت قد تراجعت في السنوات الماضية، وهي القدرة على اختيار الشخص الذي يمثله استنادًا إلى صفاته وكفاءته وحضوره الحقيقي داخل المجتمع المحلي، بعيدًا عن تأثير القوائم المغلقة أو النفوذ العائلي والتنظيمي الذي كان في كثير من الأحيان يفرض أسماء على المجالس دون أن تمتلك وزنًا شعبيًا فعليًا. هذا التغيير يعيد رسم المشهد بصورة أكثر واقعية، إذ يُظهر حجم كل مرشح في صندوق الاقتراع، ويمنع أي محاولة للمرور إلى المجلس بالاحتماء خلف كتلة أو قائمة لا تعكس حقيقة قوته الانتخابية.
أما اعتماد القائمة النسبية المفتوحة في البلديات، فيمنح الناخبين فرصة أوسع للتأثير داخل القائمة ذاتها، بحيث لا يعود ترتيب الأسماء عنصرًا حاسمًا أو وسيلة لضمان الوصول إلى مقعد البلدي، بل يصبح الناخب هو صاحب السلطة في تحديد من يتصدر القائمة ومن يتراجع فيها. وهذا يحقق تمايزًا طبيعيًا بين أعضاء الكتلة الواحدة ويمنح الجميع موقعًا متساويًا عند بدء العملية الانتخابية، فلا أحد يدخل مضمار المنافسة بموقع مضمون أو حصانة داخل القائمة، بل يخضع الجميع لحكم الناخبين ولحجم ثقتهم العامة.
ومن شأن هذا التغيير أن يحدّ من ظاهرة التسلل إلى المجالس البلدية من خلال التمركز داخل القوائم الكبرى، حيث كان بعض المرشحين يعتمدون على ثقل تنظيمي أو امتداد عائلي ظاهر للحصول على موقع مضمون داخل قائمة ما، بلا امتلاك حضور شعبي كافٍ. واليوم، ومع هذا النظام، باتت قدرة الناخبين على التمييز أكثر وضوحًا، وبات كل مرشح مطالَبًا بإثبات نفسه أمام المجتمع المحلي، لا أمام منظمي القوائم أو القوى الداخلية التي كانت تتحكم في ترتيب الأسماء. وهذا من شأنه أن يُفرز نتائج أكثر عدالة، ويمنح المجالس المنتخبة قدرًا أعلى من الكفاءة والتمثيل الحقيقي.
كما يسهم هذا القرار في تسهيل عملية تشكيل القوائم، إذ إن النظام القديم كان يفتح الباب أمام خلافات داخلية طويلة حول ترتيب الأسماء ومواقعها، وهي خلافات كانت تكفي أحيانًا لتفكيك القوائم أو إضعافها قبل الانتخابات. أما اليوم، فإن تساوي المرشحين داخل القائمة يجعل عملية تشكيلها أكثر سلاسة، ويخفف من التوترات الداخلية، ويشجع على بناء قوائم قائمة على البرامج والأفكار لا على المساومات الشخصية والمواقع المحسوبة.
وليس من المبالغة القول إن هذا القرار يضع الأساس لمرحلة انتخابية أكثر شفافية ومسؤولية، حيث يصبح صوت المواطن هو العنصر الحاسم في تحديد شكل المجالس المحلية وطبيعة عملها. فالنظام الجديد يعيد الاعتبار لثقة الجمهور، ويعزز العلاقة بين الحكم المحلي والمجتمع، ويحدّ من النفوذ غير المستحق داخل العملية الانتخابية، وفي الوقت نفسه يفتح المجال أمام تجديد حقيقي للقيادات المحلية على أساس الكفاءة والقدرة، لا على أساس الترتيب داخل القائمة أو التحالفات الضيقة.
إن أهمية القرار لا تكمن في الجانب الفني فحسب، بل في تأثيره الأوسع على الحياة السياسية الفلسطينية. فهو يعيد توزيع القوة داخل المجتمع المحلي، ويحفّز التنافس الإيجابي بين المرشحين، ويفتح المجال أمام بروز وجوه جديدة تستمد قوتها من الثقة العامة لا من دعم خارجي أو تموضع تنظيمي. وفي اللحظة التي يسعى فيها شعبنا إلى تعزيز مشاركة المواطنين وتجديد المؤسسات، يأتي هذا القرار ليؤسس لقاعدة انتخابية أكثر عدلاً وشفافية، ويمنح العملية الديمقراطية فرصة للتنفس من جديد.
بهذا المعنى، فإن قرار الرئيس الفلسطيني بشأن قانون الانتخابات البلدية والقروية يتجاوز كونه تعديلًا قانونيًا؛ إنه خطوة إصلاحية عميقة تعيد ضبط قواعد العمل المحلي، وتمنح المواطن سلطة أكبر في اختيار من يمثله، وتضع معيارًا جديدًا للنزاهة والتمثيل، بما يعزز مكانة المجالس المحلية ويقوّي دورها في الخدمة العامة والتنمية المجتمعية.





