ذكراه تتجاوز الوقت: قراءة مستمرة في إرث ياسر عرفات
ذكراه تتجاوز الوقت: قراءة مستمرة في إرث ياسر عرفات
بقلم/ د. محمد إبراهيم محمد منصور
مقرر مفوضية المكاتب الحركية حركة فتح- إقليم شمال غزة
تمر الذكرى السنوية لاستشهاد الرئيس الفلسطيني الكبير ياسر عرفات، ويظل إرثه حاضرًا في وجدان الشعب الفلسطيني، متجاوزًا حدود الزمن، ليشكل مصدر إلهام دائم لكل من يسعى لتعزيز الوحدة الوطنية وتطوير العمل الفلسطيني في جميع مراحله. إرث عرفات لم يكن مجرد رمز سياسي، بل منظومة متكاملة من القيم والقيادة والعمل المؤسساتي، شكّلت أساسًا لحركة فتح، التي ما زالت تحمل على عاتقها مسؤولية خدمة الشعب الفلسطيني، بما في ذلك في قطاع غزة.
عرفات جمع بين القوة الرمزية والحكمة العملية، الكاريزما القيادية والإدارة الاستراتيجية، وقد ترك إرثًا قائمًا على المبادرة والمسؤولية، مؤكداً أن القيادة الحقيقية ليست موقعًا سياسيًا فقط، بل خدمة مستمرة للشعب والأمة. هذه المبادئ تشكل اليوم مرجعًا مهمًا لحركة فتح، التي تواجه تحديات متعددة في غزة، لكنها مستمرة في الوفاء برسالتها التاريخية. إرث عرفات يتميز بتوازن دقيق بين العمل الوطني الداخلي والدبلوماسية الدولية، فحركته لم تكن مجرد قوة سياسية، بل مؤسسة متكاملة، قادرة على تنظيم المقاومة، إدارة الشؤون الاجتماعية، وتعزيز الانتماء الوطني. وهذا التوازن بين الحضور الميداني والحضور الدبلوماسي يمثل اليوم قدوة في مواجهة التحديات المعقدة التي تواجه غزة.
في غزة، يظهر إرث عرفات من خلال الالتزام بالحفاظ على تماسك المجتمع وتعزيز الروابط الوطنية، بالرغم من الظروف الصعبة التي يعيشها القطاع. تعمل الفروع المحلية والمكاتب التنظيمية على تنمية البرامج المجتمعية، وتشجيع النشاط الشبابي، وتعزيز المبادرات التعليمية والثقافية، بما يعكس التزام فتح بروح مؤسساتية أرساها عرفات منذ عقود. ومع ذلك، تشير الملاحظة الدقيقة إلى أن هناك مساحات مهمة للنمو والتطوير، فإشراك الشباب في مواقع القرار، وتوسيع نطاق المبادرات التي تلامس حياة المواطنين اليومية، وتطوير أساليب التواصل مع المجتمع المحلي، يمثل فرصًا لتعزيز العلاقة بين الحركة والجماهير. هذه المساحات ليست نقدًا سلبيًا، بل دعوة إيجابية وبناءة لتعزيز الحضور الشعبي وتحقيق تأثير أكبر بما يتوافق مع رؤية عرفات للوحدة الوطنية والمشاركة الشعبية.
يلعب الشباب دورًا محوريًا في استدامة المشروع الوطني الفلسطيني، وهم يمثلون الجيل الذي يضمن استمرار إرث فتح في مواجهة التحديات. تعزيز مشاركتهم في مواقع صنع القرار، وإشراكهم في تطوير المبادرات السياسية والمجتمعية، يعزز شعورهم بالانتماء ويحولهم إلى قوة فاعلة في القطاع. برامج تدريبية، مجتمعية وثقافية، يمكن أن تمثل جسرًا بين الخبرة التاريخية والحاجة للابتكار العصري، وهو ما يعكس فهمًا عميقًا لإرث عرفات القائم على القيادة المسؤولة والمبادرة العملية.
إن إنشاء مشاريع تعليمية، ثقافية، واجتماعية يسهم في تعزيز الروابط بين الحركة والجماهير. فتطوير المهارات، دعم المشاريع الشبابية، وتشجيع الأنشطة الثقافية والفنية، يعكس الالتزام بالقيم الوطنية، ويؤكد على دور الحركة ليس فقط كهيكل سياسي، بل كمؤسسة فاعلة تساهم في تحسين حياة المواطنين اليومية. هذه المبادرات، بالرغم من التحديات المالية والإدارية، تمثل فرصًا استراتيجية لتعزيز الثقة الشعبية، وخلق بيئة داعمة للتنمية، ورفع مستوى التفاعل مع المجتمع المدني. وفي هذا السياق، يمكن اعتبار غزة مختبرًا حيًا لتطبيق مبادئ القيادة البناءة، ومواصلة إرث عرفات من خلال العمل العملي الملموس.
تواجه غزة مجموعة من التحديات المعقدة، تشمل إدارة الموارد المحدودة، الصعوبات الاقتصادية، والضغط السياسي والاجتماعي. إلا أن هذه التحديات تفتح الباب أمام ابتكار حلول مرنة واستراتيجيات ذكية، تعتمد على الخبرة التاريخية للحركة، واحتضان الطاقات الشبابية، وتفعيل المبادرات المحلية. يمكن لحركة فتح أن تعزز دورها من خلال تطوير برامج مستدامة تخدم المجتمع المحلي، إشراك الشباب في صميم عملية اتخاذ القرار، تعزيز الجسور مع مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الدولية، والتركيز على الابتكار ضمن إطار القيم الوطنية لضمان تأثير طويل الأمد ومستدام.
الحفاظ على إرث عرفات لا يعني الجمود، بل توظيف الخبرة التاريخية للتعامل مع تحديات العصر الحديث. فتح في غزة أمام فرصة فريدة لإعادة صياغة حضورها، من خلال مبادرات عملية تجمع بين الحكمة المؤسسية والابتكار، بين القيادة التاريخية والفاعلية الحديثة. الاحتفال بذكرى عرفات، حتى بعد مرور يوم على استشهاده، ليس مجرد استعادة للماضي، بل فرصة للتقييم والتجديد وتأكيد الالتزام بالقيم الوطنية. فتح، بما تمتلكه من خبرة وتاريخ، مدعوة لتعزيز المبادرات العملية، وتنمية الكفاءات، وتطوير أساليب القيادة بما يتناسب مع الواقع المحلي المعقد، مع دمج روح الابتكار والتجديد ضمن إطار القيم الوطنية الراسخة.
ذكراه تتجاوز الوقت، وإرثه يبقى منارة لكل من يسعى لتطوير العمل الوطني الفلسطيني بروح إيجابية وبنّاءة. غزة، بتاريخها العريق وروحها المقاومة، تمثل مساحة حيوية لتطبيق هذا الإرث، وحركة فتح قادرة على تعزيز حضورها وتأثيرها من خلال مبادرات ذكية توازن بين الخبرة التاريخية ومتطلبات العصر الحديث، لتظل فلسطين في قلب الوعي الوطني والعالمي، ولتبقى ذكرى عرفات حية في كل قلب فلسطيني مؤمن بالحق والكرامة، مؤكدًا أن الإرث الحقيقي للقائد هو في العمل المستمر الذي يصنع الأمل ويؤسس لمستقبل أفضل.





