في البدء تكون إعادة بناء ذات الإنسان أولوية لإعادة إعمار الحجر والشجر

نوفمبر 10, 2025 - 10:01
في البدء تكون إعادة بناء ذات الإنسان أولوية لإعادة إعمار الحجر والشجر

غسان عبد الله

مع تفاقم وتعدد مصادر الضغوطات النفسية وهول انعكاساتها السلبية المهولة، التي بدأنا نشهدها على كافة فئات المجتمع الفلسطيني خلال الحرب على غزة (السابع من أكتوبر 2023) وبعدها، وبدرجات متفاوتة، على كافة قطاعات المجتمع أينما كان، سواء أعاشها أم شاهدها أم سمع عنها، بغض النظر عن: الجنس، العمر، الخلفية التعليمية والثقافية، والحالة الاقتصادية، مع التأكيد هنا أن لعدد التجارب والخبرات السابقة في مواجهة مثل هذه الضغوطات دوراً في تحديد أشكال المواجهة بنجاعة أكبر، في ظل مثل هذه الحالة، نحن بحاجة إلى المزيد من الابتعاد عن النظريات التقليدية والرؤى النمطية في التعامل مع الاضطرابات النفسية والسلوكية، وما صاحبها من حالات فقدان وخسارة (Losing) وتشريد (Displacement) وهدم (Demolishing) وتجويع (Starvation) واعتقال (Arresting) أو إبعاد (Deportation) داخل أو خارج الوطن.

ينجم عن كل هذا آثار ما بعد الصدمة (PTSD) أو إحباط واكتئاب (Depression) أو لا مبالاة (Indifference)، والأخطر تزايد الميل نحو العدوانية والعنف (Aggression & Violence) -سياسياً كان أم منزلياً- ولن ننسى ما يصيب الغالبية من حالات هلع وهلوسة، وعدم تركيز (Lack of concentration, Hallucination).

ونظراً لكون العين بصيرة واليد قصيرة، جرّاء شح الإمكانات والأدوات وغياب القسط المطلوب من ثقافة الصحة النفسية، إنْ لم يكن شحها وتصحرها في بعض المناطق، لا سيما المهمشة، يكون لزاماً على المختصين تقديم النصح والإرشاد المهني السليم لكافة قطاعات الشعب، وفق احتياجاتها ومستواها، لتكون بمثابة أدوات إسعاف أولي قابلة للتطبيق من قبل الشخص ذاته/الأسرة، بشكل فردي أو جماعي، بعيداً عن الشعوذة والهرطقة والمتاجرة بأحوال الناس التعسة.

نركّز هنا على دور الأسرة في التخفيف من حدة آثار الانعكاسات الواردة أعلاه لهذه الضغوطات النفسية، وذلك من خلال:

• ترسيم وتحديد نمط العلاقات التي تحكم جميع من ينتمي مباشرة/غير مباشرة لهذا المجتمع المصغّر، دون إغفال دور الروضة والمدرسة/والجامعة وبقية المؤسسات المجتمعية الأخرى.

• الابتعاد عن الافتراض (Assuming) بأن الكل لديه/لديها الوعي والمعرفة والدراية اللازمة بما يتوجب عمله أو تجنبه.

• اعتماد نهج التربية الإيجابية، التي من بعض سماتها التربية على الاعتماد على الذات (Self-reliance) والشراكة المسؤولة (Participatory approach) وتنظيم وإدارة الوقت (Self-regulation)، إضافة إلى تبني نهج الحوار بدلاً من إعطاء الأوامر والصراخ.

نحن هنا بصدد التعرّض، وباقتضاب، إلى دور وأثر العلاقات الإيجابية بين الجيران للانتقال من حالة المعاناة إلى حالة التعافي بعد تضميد الجراح السيكولوجية الناجمة عن مثل تلك الضغوطات النفسية، جرّاء المصادر التي ذكرناها وغيرها.

ونظراً لتركيبة نمط الأسرة، سواء كانت ممتدة (Extended family) أو عائلة نووية (Nuclear family)، لن تجد إنساناً بدون علاقات مع جيرانه، وبالتالي تنشأ علاقات متبادلة بين الطرفين، والتي نتوخى أن تتحلى بالسيرة الحسنة الطيبة، تماماً كشجرة الزيتون التي لا تنمو سريعاً ولكنها تعيش طويلاً.

لضمان ذلك وإيجاد أجواء من شأنها أن تعكس آثاراً إيجابية بغية العيش في ظل أقصى درجات الراحة النفسية، نقترح هنا ما يلي:

• العمل بموجب ما أوحت إليه الديانات السماوية الثلاث، ومنذ القدم، بأهمية بالغة لضرورة حسن وطيب العلاقة بين الجيران، من خلال تبيان حقوقه وواجباته والتعرّض لبعض الواجبات نحوه، لدرجة أن البعض كان ينظر إلى جاره كصاحب بيت، يأتمنه على الكثير من الأسرار والمواد المادية والعينية، إذ كنا نسمع كثيراً قول "لا شيء ممنوع للجار سوى السلوكيات التي تمس العرض والشرف". لذا كنت ترى الجار دوماً سنداً لجاره في الأفراح والأتراح، مما يولد لدى بقية أفراد الأسرة علاقات وطيدة من شأنها المحافظة على تعزيز واستدامة السلم الأهلي المنشود، ما يعمل على توفير الراحة النفسية والتكافل الأسري والمجتمعي وحماية النسيج الاجتماعي، حصيلة تسارع الجميع نحو تقاسم الخبرات والتجارب ومشاركة المسؤوليات في تقديم المساعدة وعمل الخير والذود عن حقوق الجار، وانتشار المحبة والود بعد أن عرف والتزم كل منهم حدوده وكفّ عن إلحاق أي أذى، مهما صغر، بجاره.

• عدم الهمز واللمز والاستغابة بين الجيران ولو عن طريق المزاح والمداعبة.

• تعزيز قيم العفو والسماح بين الجيران، مع تفهم وتحمل هفواته وانفعالاته، وتحسين فرص الإحسان وعمل المعروف مع ذاك الجار، دون تمنن "وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ" (الآية 6، سورة المدثر)، وتبني ذلك نهجاً في الحياة.

• المبادرة إلى طرح وإفشاء السلام بين الناس، لما لذلك من وقع طيب على القلوب، ناهيك عن كونه فرض عين والرد عليه فرض كفاية، مع الحفاظ على دوام البسمة والوجوه الباسرة النضرة "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ" و"وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ" (الآيتان 22+24، سورة القيامة).

• نقترح الإكثار من الزيارات العائلية المبرمجة وبمواعيد مسبقة، وكذلك الرحلات المشتركة، لما لها من تأثير على زيادة فرص تبادل الحوار والتجارب.

• كما أن هناك فوائد جمّة في توظيف التراث والحكايات الشعبية ودور الأجداد والجدات في سرد مثل هذه القصص.

• يغفل الكثيرون عن أهمية القراءة المشتركة في كسر الجمود الموجود - للأسف - بين علاقات الجيران، وعليه نقترح تشكيل لجان الكتاب في كل مجمع سكني، ويا حبذا الشروع في بدء تأسيس مكتبات صغيرة في كل حي من الأحياء السكنية القائمة.

• الإرشاد المهني الحقيقي في بناء أسس علاقات الاحترام المتبادل والقبول بالاختلاف والتعددية الفكرية وبناء أواصر المحبة (كزيارة المريض والمشاركة في الأفراح والأتراح وتلبية الدعوات قدر الإمكان، وتفقد أحواله)، وبالتالي الشعور بأن هناك سنداً بمثابة أخ لك لم تلده أمك، يمكنك الاستعانة به وقت الشدائد.

بهذا يكون الجار بمثابة مصدر تخفيف للضغوطات النفسية عن جاره، تماماً كجدول الماء الذي لا يحمل فقط ماءً، بل ويمنح الأرض من حوله خضاراً وجمالاً، ونكون قد اكتسبنا علاقة جيران مستدامة بغض النظر عن طول أو قصر الفترة الزمنية، كونها تركت آثاراً طيبة كرائحة المسك والعنبر، كل هذا كون الجار قد قام بتذويت القول: "الأخلاق هي الجندي المجهول للإنسان".

أما بالنسبة للمهنيين في مجال الصحة النفسية، فإنني أقترح أساليب سهلة الاستيعاب للفئة المستهدفة، مثل العلاج/التعافي عن طريق أسلوب السلوك المعرفي (CBT)، بالطبع دون إغفال حالة الطفولة (فقر، حرمان، أو أي من الحالات التي تم ذكرها أعلاه) والتجارب التي عاشها الطفل/الأطفال.