أهمية المدرسة في المجتمع الفلسطيني من منظور علم الاجتماع التربوي

د. صالح طلوزي مدير مدرسة ذكور خالد بن سعيد الأساسية

نوفمبر 5, 2025 - 11:23
أهمية المدرسة في المجتمع الفلسطيني من منظور علم الاجتماع التربوي

أهمية المدرسة في المجتمع الفلسطيني من منظور علم الاجتماع التربوي 
..................................... 
د. صالح طلوزي 
مدير مدرسة ذكور خالد بن سعيد الأساسية 
.................. 
          تمثّل المدرسة أحد أبرز المؤسسات الاجتماعية التي تلعب دورًا حاسمًا في تنشئة الأفراد، وتكوين شخصياتهم، وغرس القيم الاجتماعية والثقافية التي تُعد ضرورية لاندماجهم في المجتمع. ومن منظور علم الاجتماع التربوي، فإن المدرسة تُعد مجتمعًا صغيرًا يتعلم فيه الطفل معنى الالتزام، واحترام القانون، وتحمل المسؤولية، والمشاركة في العمل الجماعي.
في هذا السياق، تتجاوز وظيفة المدرسة حدود التعليم الأكاديمي، إذ تهدف إلى بناء الشخصية المتوازنة عبر تعليم الطالب الانضباط، وضبط السلوك، والاعتماد على النفس، والتفاعل الإيجابي مع الأطر الاجتماعية. وبهذا فإن المدرسة تُكمل دور الأسرة في التربية، وتُعتبر امتدادًا لها، خصوصًا مع تعقّد أنماط الحياة وتغير أساليب التنشئة التقليدية .
كما تسعى المدرسة إلى ترسيخ القيم والمعايير الاجتماعية من خلال نظامها الداخلي الذي يعتمد على النظام والتعاون والمنافسة، مما يجعلها عاملاً أساسيًا في استقرار النظام الاجتماعي .
وهنا يمكن أن نُعرّف المدرسة من منظور علم الاجتماع التربوي بأنها مؤسسة اجتماعية رسمية تمثل نظامًا اجتماعيًا أنشأها المجتمع بهدف تربية الأجيال الجديدة وتأهيلها، من خلال نقل المعارف والقيم والأنماط السلوكية السائدة، وتنشئة الأفراد وفق أهداف المجتمع وثقافته. فهي ليست مجرد مكان لتعليم القراءة والكتابة، بل هي بيئة اجتماعية تُمارس فيها عملية التنشئة الاجتماعية بشكل منظم ومقصود، وتسهم في تشكيل شخصية الفرد وتنمية قدراته ومهاراته ليكون عضوا فاعلًا في المجتمع.

المدرسة كبيئة تربوية اجتماعية فاعلة في تنشئة الطفل:
تمثل المدرسة مؤسسة تربوية اجتماعية أساسية في حياة الطفل، فهي تأتي مباشرة بعد الأسرة، وتلعب دورًا محوريًا في تأهيله ليكون فردًا إيجابيًا ومنتجًا في المجتمع. وقد أولى الخبراء التربويون أهمية كبيرة للبيئة المدرسية بوصفها حاضنة للتنشئة السليمة للطفل، فهي تمتلك المقومات الأساسية للنمو المتكامل، وتوفر له بيئة منظمة، منتظمة، وتشاركية .
فالمدرسة  تعتبر مناخًا اجتماعيًا يساعد الطفل على اكتساب القيم الاجتماعية، والتفاعل الإيجابي مع أقرانه، وتقبّل التنوع، والتكيف مع قواعد النظام والانضباط. كما تسهم في صقل شخصية الطالب، وتزوده بالمعارف والمهارات اللازمة للاندماج في المجتمع. فالنظام المدرسي بما يحتويه من تفاعل منظم بين الطلبة والمعلمين، يشكل إطارًا لتكامل النمو الاجتماعي والانفعالي للطالب، ويغرس فيه مفاهيم الانضباط، والمواطنة، والعمل الجماعي.

في ظل الواقع المعقد الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، تبرز المدرسة الفلسطينية بوصفها مؤسسة اجتماعية وتربوية محورية تمثل خط الدفاع الأول عن الهوية الوطنية والثقافة الجمعية، وتُعدّ ركيزة أساسية في بناء الإنسان الفلسطيني وصناعة مستقبل الأجيال. ومن منظور علم الاجتماع التربوي، فإن المدرسة ليست مجرد مكان لتلقين المعارف، بل فضاء اجتماعي متكامل للتنشئة والتفاعل، وبناء الشخصية الوطنية، وتحقيق التماسك المجتمعي في مواجهة تحديات الاحتلال وظروف القهر البنيوي التي يعيشها الفلسطينيون.
أهمية المدرسة في الواقع الفلسطيني :
أولًا: التنشئة الاجتماعية وتكوين الوعي الجمعي:
      تُسهم المدرسة الفلسطينية بدور محوري في عملية التنشئة الاجتماعية، فهي الأداة التي تنقل القيم والمعايير الاجتماعية والثقافية من جيل إلى آخر. وفي سياق الاحتلال، تتجاوز وظيفة المدرسة حدود التعليم الأكاديمي إلى ترسيخ قيم الصمود، والانتماء، والتحدي، والكرامة الوطنية. كما تعمل على بناء وعي جمعي يعزز روح التضامن والتكافل بين الطلبة، ويغرس فيهم مفاهيم الحرية والعدالة والحق في تقرير المصير، وهو ما يجعل المدرسة الفلسطينية فضاءً مقاوِمًا للهيمنة الثقافية والاستلاب المعرفي.
ثانيًا: ترسيخ الهوية الوطنية والثقافية:
في ظل محاولات الاحتلال طمس الذاكرة الجمعية وتشويه الرواية التاريخية، تؤدي المدرسة الفلسطينية وظيفة وطنية كبرى في حماية الهوية الثقافية وتعزيز الانتماء الوطني. فهي تُعلّم الطلبة تاريخهم الحقيقي، وتربطهم بجذورهم وأرضهم وتراثهم، وتُسهم في حفظ اللغة العربية والرموز الثقافية الفلسطينية من التلاشي. ومن خلال المناهج الدراسية والأنشطة اللامنهجية، تُمارس المدرسة دورًا مقاومًا للسياسات الاحتلالية التي تستهدف الوعي الجمعي، وبذلك تُصبح أداة للحفاظ على الذات الجمعية في مواجهة طمس الهوية الفلسطينية.
ومن جهة أخرى، تلعب المدرسة دورًا في تنقية التراث الثقافي وتصفيته من الشوائب، مع مراعاة التنوع الثقافي داخل المجتمع، مما يسمح بإعادة إنتاج ثقافة وطنية مشتركة تعزز من تماسك المجتمع الفلسطيني، خاصة في ظل ظروف الاحتلال والضغوط السياسية.

ثالثًا: الحد من الفجوة الاجتماعية وتحقيق العدالة التربوية
     إلى جانب ذلك، تعمل المدرسة على احتواء الفروقات الفردية بين الطلاب، وتفتح المجال أمامهم للتعبير عن ذواتهم والتفاعل ضمن بيئة آمنة ومنظمة، وهو ما يُعدّ أمرًا حيويًا في المجتمعات التي تواجه تحديات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية كما هو حال المجتمع الفلسطيني.
        وهنا تبرز أهمية المدرسة كأداة لتحقيق العدالة الاجتماعية وتقليص الفوارق الطبقية. وفي السياق الفلسطيني، تكتسب هذه الوظيفة بعدًا وطنيًا، إذ تعمل المدرسة على توفير فرص تعليم متكافئة لأبناء المخيمات والمناطق المهمشة رغم محدودية الموارد. وبذلك تتيح التعليم كوسيلة للحراك الاجتماعي وتمكين الأفراد من تحسين أوضاعهم المعيشية والمشاركة الفاعلة في بناء المجتمع. فالمدرسة تصبح مجالًا لبناء رأس المال البشري، الذي يمثل بدوره القوة الفاعلة في التنمية الوطنية ومقاومة التهميش البنيوي.

رابعًا: الاستجابة للتحديات النفسية والاجتماعية
نتيجة الواقع المأساوي الناتج عن الاحتلال والعنف اليومي والاجتياحات المتكررة، يعاني العديد من الطلبة من ضغوط نفسية واجتماعية شديدة. وهنا تظهر أهمية المدرسة كبيئة داعمة نفسيًا واجتماعيًا، من خلال برامج الإرشاد التربوي والدعم النفسي والاجتماعي التي توفر للطلبة مساحة للتعبير والتفريغ، وتعيد إليهم الشعور بالأمان والانتماء. كما تعمل الأنشطة اللاصفية على تعزيز روح المبادرة والابتكار، وتحدّ من مظاهر الانعزال واليأس، لتصبح المدرسة أداة لإعادة التوازن النفسي والتماسك الاجتماعي داخل المجتمع الفلسطيني.
خامسًا: بناء رأس المال الاجتماعي وتعزيز المواطنة الفاعلة
تُسهم المدرسة الفلسطينية في بناء رأس مال اجتماعي قائم على الثقة، والتعاون، والتكافل بين مكونات المجتمع المدرسي: الطلبة، والمعلمين، وأولياء الأمور. فالعلاقات التربوية التي تنشأ داخل المدرسة تخلق شبكة دعم مجتمعي متينة، تُسهم في تعزيز روح المشاركة والمواطنة الفاعلة، وتنمية حس المسؤولية الاجتماعية. ومن خلال هذا الدور، تتحول المدرسة إلى نواة لمجتمع مدني فاعل قادر على الإسهام في التنمية الوطنية ومواجهة التحديات السياسية والاجتماعية.
وفي الختام نقول :  
•    إن المدرسة الفلسطينية ليست مجرد مؤسسة تعليمية، بل هي ركيزة لبناء مجتمع قوي وواعٍ. ومن خلال أدوارها التربوية والاجتماعية، فإنها تسهم في تنمية وعي الطلبة، وتوجيههم نحو قيم المسؤولية، والانتماء، والاحترام، مما يعكس أهمية دعمها وتطويرها في ظل التحديات الوطنية والإنسانية التي يواجهها الشعب الفلسطيني.

•    من منظور علم الاجتماع التربوي، تُمثل المدرسة الفلسطينية مؤسسة اجتماعية مقاومة، تتجاوز وظيفتها التعليمية إلى أدوار وطنية وثقافية ونفسية. فهي الحاضنة التي تُعيد إنتاج الوعي الجمعي الفلسطيني، وتحافظ على تماسك المجتمع في ظل الاحتلال، وتبني إنسانًا واعيًا بقضيته وقادرًا على التغيير. ومن ثم، فإن الاستثمار في التعليم الفلسطيني هو في جوهره استثمار في بقاء الهوية الوطنية واستدامة الصمود المجتمعي
•    لا تقتصر المدرسة الفلسطينية على كونها مكانًا للتعليم، بل تتجاوز ذلك لتكون فضاءً تربويًا واجتماعيًا يسهم في بناء المواطن الصالح، وتنشئة جيل قادر على التفاعل مع متغيرات الحياة، وتحمل مسؤولياته تجاه نفسه ومجتمعه ووطنه