تراجع نفوذ اللوبي الإسرائيلي في أمريكا
نبهان خريشة
نبهان خريشة
ما يحدث اليوم في واشنطن لا يمكن اختزاله في كونه مجرد تعديل محدود في السياسة الخارجية الأمريكية، بل هو انعكاس لتحول أعمق بكثير يتجاوز دهاليز السياسة إلى جوهر الوعي الجمعي للمجتمع الأميركي. لقد بدأ الأميركيون، أفراداً وجماعات، يعيدون النظر في المسلّمات التي حكمت نظرتهم إلى إسرائيل لعقود طويلة، ويطرحون أسئلة لم يكن مسموحاً طرحها في العلن، وكأنّ جدارالصمت الذي فُرض قسراً بدأ يتصدع أخيراً.
منذ السبعينيات وحتى وقت قريب، ظل اللوبي الإسرائيلي القوة الأكثر تنظيماً وانضباطاً في الساحة السياسية الأمريكية. امتلك قدرة هائلة على التأثير في الكونغرس والبيت الأبيض، وصاغ بحنكة الخطاب الإعلامي والثقافي السائد. كان نفوذه يتجاوز رسم سياسات الشرق الأوسط ليحدد ما يُعتبر كلاماً شرعياً وما يُحظر الخوض فيه. وكان الصحفي أو السياسي الذي يتجرأ على نقد إسرائيل أو مساءلة الدعم الأميركي لها يعرّض نفسه للتشهير، وربما لإنهاء مسيرته المهنية بالكامل. هذه الحالة من الهيمنة منحت اللوبي الإسرائيلي سلطة تكاد تكون مطلقة في توجيه النقاش العام وصناعة الرأي الام أيضا.
لكن هذه الهيمنة لم تعد كما كانت. في السنوات الأخيرة، بدأنا نشهد تحوّلاً جوهرياً، حيث أخذت المحرمات تتلاشى شيئاً فشيئاً، وصار النقد العلني لإسرائيل، وللدعم الأميركي غير المشروط لها، أمراً مطروحاً ومتداولاً حتى في قنوات إعلامية ومؤسسات سياسية كانت بالأمس القريب من أبرز حلفائها. التصدعات في الإجماع السياسي والإعلامي أصبحت واضحة، وكأنّ الحصن المنيع الذي أحاط باللوبي الإسرائيلي لعقود بدأ يتداعى من الداخل.
هذا التحول لم يأتِ من فراغ. لقد تراكم عبر سنوات من التوثيق والعمل المدني والحملات الحقوقية التي كشفت للرأي العام الأميركي وجهاً آخر للصراع. صور الدمار في غزة، قتل الصحفيين، اقتلاع العائلات الفلسطينية من بيوتها، والتوسع الاستيطاني الذي بدا لا يعرف حدوداً—كلها حقائق عرّت الخطاب المهيمن وكشفت تناقضه مع الواقع. ومع انتشار الإعلام البديل وصعود وسائل التواصل الاجتماعي، لم يعد بالإمكان السيطرة على الصورة كما كان يحدث في الماضي. المواطن الأميركي العادي أصبح يرى بأم عينيه ما يجري، ولم يعد مضطراً لتلقي رواية مصفّاة تمر عبر قنوات اللوبي التقليدية، أو إمتداداته.
ومن أبرز مؤشرات هذا التغير تراجع فعالية السلاح الأبرز في خطاب اللوبي: ربط أي انتقاد لإسرائيل بمعاداة السامية. لعقود، كان هذا السلاح كفيلاً بإسكات أي صوت ناقد. لكن الأميركيين، لا سيما الأجيال الشابة، باتوا أكثر وعياً بهذا الخلط المقصود بين اليهودية كدين وهوية، وبين إسرائيل كدولة ذات سياسات قابلة للمساءلة والنقد. هذا الفصل بين الهوية الدينية والسياسة أصبح واضحاً حتى داخل شرائح واسعة من اليهود الأميركيين أنفسهم، الذين بدأوا يجاهرون برفضهم لاستخدام تهمة معاداة السامية كدرع سياسي يحجب النقاش الحر.
تجليات هذا الوعي الجديد بدت واضحة في الحقل السياسي. الأجيال الشابة، خصوصاً في الحزب الديمقراطي، صارت أقل التزاماً بالرواية التقليدية وأكثر استعداداً لطرح أسئلة صعبة. بعض أعضاء الكونغرس تجرأوا على كسر الاصطفاف المعتاد، ودعوا إلى فرض قيود على المساعدات العسكرية أو إلى محاسبة إسرائيل على ممارساتها. مثل هذه المواقف، التي كانت كفيلة بإنهاء الحياة السياسية لأي نائب او عضو كونغرس قبل عقد أو عقدين أو حتى أقل من ذلك، أصبحت اليوم ممكنة بل ومطلوبة لدى جمهور واسع. الأمر ذاته انسحب على الجامعات ومراكز الأبحاث، حيث وجدت الأصوات الناقدة مساحة أوسع للتعبير. حتى في وسائل الإعلام الكبرى، بدأت تتسع المساحة للنقاش، ولو بحذر.
القوة التي اعتمد عليها اللوبي الإسرائيلي لطالما كانت تقوم على الخوف: الخوف من الاتهام باللاسامية، الخوف من فقدان التمويل، الخوف من العزلة السياسية. لكن هذا الخوف أخذ يتراجع. بعض الحلفاء التقليديين صاروا أكثر تحفظاً في دعمهم، والمتبرعون الكبار شرعوا في تنويع أولوياتهم بعيداً عن الانحسار في أجندة واحدة، ووسائل إعلام كانت متشددة في خطابها بدأت تقدم مقاربات أكثر نقدية وتعقيداً. الهالة التي كانت تُظهر اللوبي كقوة لا تُقهر باتت أقل حضوراً، والسطوة التي بدت يوماً مطلقة أخذت تتآكل تدريجياً.
لكن من المهم التأكيد أن هذا التراجع لا يعني اختفاء النفوذ. فالقوة المالية والسياسية التي يملكها اللوبي لا تزال كبيرة، وشبكاته داخل السلطة ما زالت نشطة وفعّالة، لكن الجديد هو أن سلطته لم تعد مطلقة كما كانت، وأن أسئلة حقوق الإنسان، والتوازن الأخلاقي للدعم الأميركي، والجدوى الاستراتيجية لهذا الانحياز المطلق، باتت تُطرح علناً وتفرض نفسها على النقاش العام.
الأبعاد الأوسع لهذا التحول تتصل بجوهر الديمقراطية الأميركية نفسها. فعندما يكسر المواطنون حاجز الصمت، ويعيدون النظر في الثوابت، ويطالبون بإجابات شفافة، تبدأ حتى أعتى القوى السياسية بالتراجع. لم يعد الأمر مجرد ملف يتعلق بالشرق الأوسط، بل أصبح اختباراً لمدى حيوية الديمقراطية الأميركية وقدرتها على استيعاب التعددية في الرأي.
وكانت الولايات المتحدة قد شهدت في خمسينيات القرن الماضي واحدة من أكثر مراحلها ظلمة سياسياً وفكرياً حين أحكم السناتور جوزيف مكارثي قبضته على الحياة العامة تحت ذريعة “مكافحة الشيوعية”. فقد أطلق حملة شعواء ضد المثقفين والفنانين والسياسيين، وامتلأت القوائم السوداء بأسماء من وُصفوا بأنهم “متعاطفون مع الشيوعية”، ما خلق مناخاً من الخوف والرقابة الذاتية في الجامعات ووسائل الإعلام وهوليوود. لكن هذا العصر لم يدم طويلاً؛ إذ تصدت له نخبة من المثقفين والصحفيين والفنانين والسياسيين الذين رفضوا خنق الحرية الفكرية باسم الأمن القومي.
وكان الدور الحاسم في سقوط المكارثية لإعلاميين مثل إدوارد مورو، الذي فضح في برامجه التلفزيونية طبيعة المكارثية القمعية، فأسهم في إيقاظ الرأي العام ضدها. ومع تزايد الوعي بخطرها على الديمقراطية الأمريكية، تراجع نفوذ مكارثي وسقط سياسياً في نهاية العقد. هذه التجربة رسّخت في الوعي الأمريكي أن الخوف لا يصنع أمناً، وأن المجتمع الحر قادر على تصحيح مساره حين يتهدده التطرف السياسي، وهي درس يعاد استحضاره اليوم في نقاشات النفوذ السياسي للوبي الإسرائيلي.
لقد علمنا التاريخ أن اليقينيات السياسية لا تصمد طويلاً أمام الحقائق الجديدة. وما نشهده من تراجع في نفوذ اللوبي الإسرائيلي ليس تعبيراً عن عداء أو تحيز، بل هو انعكاس لإدراك متنامٍ بأن الولاء الأعمى يقوّض الديمقراطية، وأن العدالة والشفافية قيمتان لا يمكن تجاهلهما. كثيرون يعتبرون أن هذه الصحوة جاءت متأخرة، لكنها في نظرهم ضرورية ولا غنى عنها.
وما يجعل الأمر أكثر أهمية هو أن هذا التحول لم يعد محصوراً بالنقاش الداخلي، بل بات ينعكس مباشرة على السياسة الخارجية الأميركية. أسئلة حول حجم المساعدات لإسرائيل، وحول اتساق هذه السياسة مع مبادئ حقوق الإنسان، وحول حدود تدخل الولايات المتحدة في صراعات المنطقة، باتت كلها مطروحة على طاولة النقاش. هذا يضع صانعي القرار أمام معادلة جديدة، بين تحالفات استراتيجية تاريخية من جهة، وضغط أخلاقي وشعبي متصاعد من جهة أخرى.
يمكن القول إن قصة تراجع نفوذ اللوبي الإسرائيلي ليست مجرد فصل في السياسة الأميركية، بل هي جزء من حكاية أكبر عن الديمقراطية والمساءلة ووعي الشعوب. إنها تذكير بأن أي قوة، مهما بدت مطلقة، ليست أبدية، وأن الحقيقة والعدالة قادرتان على فرض نفسيهما حين يمتلك الناس الشجاعة للسؤال والمطالبة بالجواب. ومع استمرار هذا المسار، قد نشهد في السنوات المقبلة تحولاً أعمق يعيد تشكيل السياسة الأميركية برمتها، ويجعلها أكثر تعددية وانفتاحاً على أصوات لم تكن مسموعة من قبل.





