القضاء الاصطناعي: هل تُعيد الخوارزميات تعريف العدالة أم تعيد إنتاج الظلم؟
صدقي ابوضهير – باحث ومستشار بالاعلام والتسويق الرقمي

لم تعد الخوارزميات حكرًا على مجالات الترفيه والتسويق، بل بدأت تدخل إلى عمق الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حتى وصلت إلى القضاء. ومع هذه النقلة، يتولّد سؤال جوهري: هل القضاء الاصطناعي قادر على تقديم عدالة أنقى وأكثر حيادًا، أم أنه سيعيد إنتاج تحيزات البشر بصورة رقمية أكثر قسوة؟
الجوانب الاجتماعية: بين الثقة والاغتراب
من الناحية الاجتماعية، قد يرفع القضاء الاصطناعي مستوى الثقة إذا أثبت أنه محايد لا يميز بين دين أو عرق أو طبقة. المواطن البسيط سيشعر أن قضيته أمام "قاضٍ" لا يمكن رشوته ولا التأثير عليه.
لكن الوجه الآخر للصورة قد يكون قاسيًا: إذا تحولت العدالة إلى شاشة باردة لا ترى دموع الضحية ولا تسمع نبرات صوت المظلوم، سيزداد الاغتراب وقد يتولد رفض مجتمعي واسع لأي حكم صادر عن آلة.
الجوانب السياسية: من يكتب الكود ومن يملك القرار؟
القضاء البشري يتأثر بالسياق السياسي والتشريعي، والخوارزميات ليست استثناء. فهي تُصمَّم داخل بيئات سياسية واقتصادية لها مصالحها. السؤال هنا: من يضع المعايير؟ ومن يحدد معنى "الإنصاف" رقميًا؟
إذا كانت السلطة السياسية قادرة على التحكم بالكود، فالأمر لا يختلف كثيرًا عن التدخل في أحكام القضاء التقليدي. لكن الخطر يصبح مضاعفًا لأن الخوارزمية تعمل على نطاق واسع وبسرعة هائلة.
الجوانب الاقتصادية: عدالة أسرع أم سوق للظلم؟
الجانب الاقتصادي حاضر بقوة: القضاء الاصطناعي قد يقلل التكاليف ويختصر الزمن، ما يعني عدالة أسرع للمجتمع. لكن في الوقت ذاته، شركات التقنية التي تطور هذه الخوارزميات ستصبح لاعبًا أساسيًا في العدالة، ما قد يفتح الباب أمام سوق "للعدالة الرقمية" تتحكم فيه مصالح اقتصادية لا مبادئ حقوقية.
القضاء المبني على الأفضلية: عدالة احتمالات أم إنصاف أفراد؟
الخوارزميات غالبًا تعمل على منطق الأفضلية الإحصائية: إذا أشارت البيانات إلى احتمال عالٍ لعودة المتهم للجريمة، قد تقترح حكمًا أشد. لكن هذا يعني أن الفرد يُحاكم بناءً على تشابهاته مع الآخرين، لا على أفعاله الفردية. العدالة هنا تتحول إلى حساب احتمالات، ما يفتح الباب لنقاش فلسفي: هل الهدف إنصاف الفرد أم حماية المجموع؟
العدالة الرقمية بلا تحيز: حلم أم وهم؟
نظريًا، الخوارزمية يمكن أن تكون محايدة لأنها لا ترى اللون ولا الدين. عمليًا، هي تتغذى على بيانات منحازة تاريخيًا. فإذا كانت سجلات الشرطة أو المحاكم منحازة، فستعيد الخوارزمية إنتاج هذا الانحياز. النتيجة قد تكون "عدالة أكثر اتساقًا إحصائيًا" لكنها ليست بالضرورة أكثر إنصافًا إنسانيًا.
العدالة الطبيعية مقابل العدالة الخوارزمية
العدالة الطبيعية التي يمارسها البشر تتأثر بالاقتصاد والسياسة والظروف المتغيرة. والخوارزميات أيضًا ليست فوق هذه المؤثرات، بل انعكاس لها. لا يمكن القول إن القضاء الاصطناعي سيكون مطلق الحياد، لأنه سيظل مرآة للسياق السياسي والاقتصادي الذي بُرمج داخله.
خاتمة: بين المحكمة والمنصة
كما تعطي خوارزميات ميتا أفضلية للـ ريلز على باقي أشكال المحتوى، قد تعطي خوارزميات القضاء أفضلية لأحكام أو مسارات معينة وفقًا لمنطقها البرمجي.
وهنا يظهر السؤال المفتوح: إذا كنّا نشعر أحيانًا بالظلم لأن منشورًا لنا لم يصل لجمهور واسع بسبب خوارزمية تفضّل غيره، فكيف سيكون شعورنا لو تحوّل هذا "المنطق" نفسه إلى حكم قضائي يصوغ مصير إنسان؟ وهل نحن مستعدون لتسليم العدالة البشرية إلى منطق "الأفضلية الرقمية"؟