الباحث بين الطقس الأكاديمي والذكاء الاصطناعي: تفكيك نقدي للمعرفة في زمن الخوارزميات
بقلم : وفاء داري كاتبة وباحثة - فلسطين

الباحث بين الطقس الأكاديمي والذكاء الاصطناعي: تفكيك نقدي للمعرفة في زمن الخوارزميات
بقلم : وفاء داري كاتبة وباحثة - فلسطين
ما معنى أن تكون باحثًا في زمن الخوارزميات؟ ومن هو الباحث في نظر خصوم الذكاء الاصطناعي؟
في عيون مناهضي الذكاء الاصطناعي، يبدو أن "الباحث" لا يُعرّف بوصفه منتجًا للمعرفة أو صانعًا للتحول العلمي، بل كمجرد آلة بشرية مبرمجة على إهدار الوقت والجهد في مهام شكلية أكثر من كونها معرفية. فالباحث، بحسب هذا المنظور، هو ذاك الذي يتفرغ لأيام وربما شهور في التنقيب بين مئات الأوراق العلمية، ليجمع منها ما قد لا يمت بصلة مباشرة إلى موضوعه، ثم يعيد ترتيبها في ما يُعرف بـ"الدراسات السابقة"، كأنها طقس لا بد من تأديته قبل الدخول في صلب البحث. إنها صورة تختزل الباحث في دور الناسخ المطيع، لا في دور المفكر المبدع، وتكشف عن جوهر أزمة البحث العلمي التقليدي.
طقوس الدراسات السابقة – الهوس بالعنوان والتنسيق – مركزية البطء والتقليد الموروث.
حتى إذا كان موضوع بحثه جديدًا بالكامل، يُطلب منه وبإلحاح أكاديمي أن يكتب مقدمة طويلة، يبرر فيها ما لا يحتاج إلى تبرير، ويسهب في الشرح عمّا لم يُذكر من قبل، لا لشيء إلا لأن هذا هو النموذج المعتمد (الموروث).
وإذا تجاوز الباحث هذه العتبة الشكلية الأولى، فإنه يُستدعى إلى طقس آخر لا يقل سطحية: العنوان.
الهوس الشكلي بالعنوان والتنسيق:
فالباحث يُطالب بالتمعن في عنوان بحثه كما لو كان يُصوغ بيتًا من الشعر: يُدقق في ترتيب الكلمات، يبحث في دلالاتها، ويتساءل: هل توضع هذه الكلمة أولًا أم تُؤخر؟ هل "فاعلية" تسبق "التقنية"، أم العكس؟ وكأن جودة البحث تتوقف على ترتيب الكلمات في العنوان لا على المضمون نفسه. ثم تأتي الطامة الكبرى: الاعتناء الشكلي المتقن بالبحث. من البلاغة اللغوية والبنيوية إلى علامات التشكيل، إلى تنسيق الفقرات وتلوين الجداول. فالباحث في هذا الإطار ليس سوى ناسخٍ مُجيدٍ، عليه أن يُخرج بحثه كما لو كان واجبًا إنشائيًا في حصة إملاء بمدرسة. أما الإنجاز الحقيقي، فهو أن يقضي الباحث سنوات لإنهاء بحث قد يُنجز بجهد مركز خلال أسابيع أو أشهر. لماذا؟
بسبب مركزية البطء والتقليد الموروث: لأن المشرف الأكاديمي قد قضى هو الآخر سنوات في بحثه، فيُصبح التباطؤ تقليدًا مقدسًا لا يجوز تجاوزه. ألم نقل أنه المورث! بل وحتى التحقق من المصادر، والذي يمكن للذكاء الاصطناعي أن ينجزه في لحظات، يتحول إلى طقس مرهق وطويل، وكأن السرعة والدقة أمران مشبوهان في الأكاديميا التقليدية. هكذا يتحوّل البحث العلمي إلى طقسٍ موروث، يُقاس فيه الجهد بالوقت لا بالابتكار، وتُقدّس فيه المعاناة بدلًا من النتائج.
لنقف لحظة…
من قال إن الباحث يجب أن يولي عناية مفرطة بشكل البحث وتنسيقه وإظهاره في "أفضل صورة ممكنة"، رغم أن مصير هذا العمل في معظم الأحيان هو الإهمال بعد أيام من مناقشته أو نشره؟ ألا يُلقى في أرشيف رقمي مكتظ، لا يقرؤه أحد، ولا يُستفاد منه علميًا بشيء؟ لنكن اكثر شفافيه.. كم من الأبحاث تُنجز كل عام، وتُزخرف بالكلمات الرنانة والعبارات الطنانة؟ لكن ما مصيرها؟ تُهمل على الرفوف أو في الأرشيف الرقمي، لا تترك أثرًا ولا تسهم في تطوير المعرفة أو الواقع أو العالم. إذا كان هذا هو المصير، فهل يكون الانشغال بالشكل على حساب المضمون سوى مضيعة كبرى؟ هنا يطلّ السؤال: كيف نُعيد تعريف الباحث في زمن الأدوات الذكية؟
الباحث الذكي: كيف يُمكن للباحث الذكي أن يوظف الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات، أو في المقارنة النقدية للنصوص، بدلًا من الاكتفاء بالمهام الشكلية.
بعكس ما يروج له خصوم الذكاء الاصطناعي لا يهدر وقته في الصياغات الشكلية والطقوس الأكاديمية الجوفاء، بل يُسخر الأدوات الحديثة لخدمة العقل، لا لإلغائه. يوظف الذكاء الاصطناعي ليتجاوز الحشو والتنميق، ويتفرغ للتحليل، للابتكار، للنتائج الحقيقية ذات الأثر. فمثلًا، يستطيع الباحث أن يستخدم الذكاء الاصطناعي في فرز آلاف المقالات خلال دقائق لاختيار ما يرتبط حقًا بموضوعه، أو في تحليل شبكة المفاهيم داخل نص أدبي ضخم، بدلًا من إهدار الشهور في مهام يمكن أتمتتها. بهذا يتحرر الباحث من أسر الشكل إلى جوهر البحث، ومن عبء التكرار إلى فضاء الابتكار.
لكن لحظة التحرر هذه لا تمضي بسهولة، إذ تصطدم بعائق قديم متجدد: (الأصالة)
الأصالة بين القيد والإبدا ع: نقد الأصالة الشكلية في الأكاديميا، و إعادة تعريف الأصالة كذلك إعادة توظيف للمناهج والأدوات (مثل الذكاء الاصطناعي) ضمن سياقنا الثقافي.
إننا أمام لحظة تحول معرفي غير مسبوقة، لكنها تصطدم بجدار "الأصالة" كما يُفهم تقليديًا، لا باعتبارها فعلًا إبداعيًا حيويًا، بل كقيد شكلي يُراد له أن يكون حارسًا على بوابة الماضي. وهذه "الأصالة" لا تختلف كثيرًا عن مفارقة الصناعات "المحلية" في دولنا: حيث تُنظم معارض الفخر بـ"المنتج الوطني"، في حين أن الآلات صينية، والخامات هندية، والتغليف تركي، والطباعة إيطالية... ثم يُكتب على العلبة: "صُنع بفخر في وطننا". إنها أصالة "مستوردة بالكامل". إنها أصالة مشروطة بالشكل، ومستوردة في المضمون، فلا تُنتج إبداعًا بل تُكرّس وهمًا. وما يحدث في الاقتصاد والصناعة يحدث أيضًا في الفكر؛ فالنقد الأدبي مثال بارز على ذلك.
النقد الأدبي العربي وتاريخ الاستعارة والتأويل:
فالواقع أن النقد الأدبي، بمفهومه الحديث المؤسس على النظريات والمناهج، نشأ في الغرب في ظل حركات التنوير والثورات الثقافية الكبرى، التي أنشأت المدارس والمذاهب بدءًا من الكلاسيكية والرومانسية، مرورًا بالبنائية والتفكيكية، وانتهاءً بمقاربات ما بعد الحداثة، والنقد الرقمي المعاصر. في ذلك الوقت، كان الوطن العربي منشغلًا بمعارك التحرر الوطني من الاستعمار، فلم يُتح له الانخراط المبكر في إنتاج نظريات الأدب، مما جعلنا متأخرين عن ركب التحول الأدبي والثقافي بعدة عقود.
وهنا يطل سؤال مُلح: إذا استطعنا أن نؤوّل البنيوية والتفكيكية لتصبح جزءًا من خطابنا الثقافي، فلماذا لا نفعل الشيء ذاته مع الذكاء الاصطناعي؟!
ولمّا بدأنا ننهض من هذا الإرث الاستعماري، كانت فلسطين لا تزال الجرح النازف، والاحتلال حاضرًا بقوة، لكنه شكّل محفّزًا للتفكير العميق في الهوية، في الثقافة، في الذات والآخر. عندها بدأ الانتباه العربي للأدب والفكر والفلسفة، وبدأنا نعيد قراءة الغرب ومناهجه النقدية، استوردنا الأخشاب الأصلية من البنيوية إلى التفكيكية، ومن الأسلوبية إلى التأويلية، ومن النقد السوسيولوجي إلى النقد الرقمي المعاصر. لكننا لم نُقلّد، بل بدأنا نُعيد تسمية هذه المناهج بما يتلائم مع الموروث العربي والسياق الثقافي الخاص بنا. أي أننا لم ننقل المناهج كما هي، بل أعدنا تأويلها ضمن فضائنا اللغوي والتاريخي، فكان هذا هو النقد العربي الحديث – تجربة هجينة، لكنها مشروعة فكريًا، لأنها نابعة من وعي الضرورة، لا من تبعية ساذجة.
لقد فعلنا ذلك من قبل مع المناهج الغربية، وأثبتنا أن التأويل أعمق من النقل، فلماذا نتراجع اليوم؟ حين نُقبل على الذكاء الاصطناعي، نرتد إلى الخطاب القديم عن "الأصالة" ونحاربه كأنه دخيل؟
هل الأصل أن نرفض الأدوات الجديدة، أم أن نعيد توظيفها؟و هل نكرر في زمن الرقمنة ذات المخاوف التي رافقت الحداثة الأولى؟ فلماذا اليوم، حين نُقبل على الذكاء الاصطناعي، نرتد إلى الخطاب القديم عن “الأصالة” ونحاربه كأنه دخيل؟
اعتدنا أن ننظر إلى البحث العلمي بوصفه عملاً جادًا، ثابت الخطى، تحكمه القواعد الصارمة والشكليات التي لا تُمس، حتى أصبح الشكل أحيانًا أهم من المضمون، والمراسيم أهم من النتائج. لكننا نعيش اليوم في زمن لم يعد يعترف بالثوابت على نحو مطلق؛ زمن تتحول فيه المعرفة من الورق إلى الخوارزم، ومن القاعات الجامعية إلى شبكات الذكاء الصناعي. وهنا لا تعود المشكلة في البحث العلمي نفسه، بل في تمسّكنا بقوالب جامدة لا تواكب التحولات الجذرية التي يعيشها العالم.
في الختام وفي خضم هذا التحول الجذري: قد آن الأوان لنسأل أنفسنا، لا بوصفنا باحثين فحسب، بل بوصفنا فاعلين في مشروع معرفي معاصر:
هل آن الأوان لنُعيد التفكير في مفهوم "البحث العلمي"؟
هل نُواصل السير في دروب تقليدية لم تعد تواكب تحولات العالم الرقمي؟
أم ما زلنا نُصِرّ على معاداة الذكاء الاصطناعي دون مبرر علمي، أو حتى منطقي؟
إن البحث العلمي يقف اليوم على منعطف حاسم، ورفض الذكاء الاصطناعي ليس سوى تكرار لمخاوف ماضٍ تجاوزه الزمن. فالمطلوب ليس الهروب من الأدوات الجديدة، بل إعادة تعريف الباحث نفسه، ليبقى الفاعل الحقيقي في مشروع المعرفة المعاصر.