قصور الفهم المترجم !

زياد حلبي

أغسطس 26, 2025 - 22:31
قصور الفهم المترجم !

زياد حلبي 

قصور الفهم المترجم !

إن أكبر خطأ يُرتكب في فهم إسرائيل هو الركون إلى الترجمة، إلى ما تنشره صحفها وقنواتها باعتباره مرآة تعكس الحقيقة. والحقيقة أنّ ما يخرج من هناك ليس إلا قشرة لواقع معقد، يُعاد تشكيله يوميًا بمناهج التعليم، ومراكز الأبحاث، وخطاب سياسي–ديني لا يمكن اختزاله في مقال مترجم أو تصريح متداول. فالمجتمع الإسرائيلي ليس كتلة واحدة،إنه فسيفساء متناقضة تُدار بوصفة دقيقة: في داخله تيارات دينية مثل الحريديم، الذين لا يعترفون بالعبرية الحديثة أصلًا، لأنها بالنسبة لهم “لغة القيامة” التي لا يجوز إحياؤها قبل مجيء المسيح المنتظر. يتحدثون بالـيِدِّيش، لغة هجينة، خليط من العبرية والألمانية ،طُوِّرت في غيتوهات ألمانيا كي لا يفهمهم السجانون النازيون. هؤلاء الحريديم يرون أن قيام دولة إسرائيل قبل “يوم القيامة” كفر صريح، ويُحرِّمون اقتحام المسجد الأقصى، ويرفضون الخدمة العسكرية. ومن بينهم حركة ناتوري كارتا – “حارسو الأسوار” – التي ذهبت بعيدًا حتى أنّ الحاخام موشيه هيرش صار وزيرًا في السلطة الفلسطينية. لكن المشهد ليس بهذه البساطة؛ فداخل هذا التيار ذاته ثمة يمينيون متطرفون، بعضهم ينتمي إلى مدارس دينية شرقية وأخرى غربية، يلتقون على أرضية واحدة مع المستوطنين الذين يرفعون لواء التوراة كسلاح سياسي وعسكري في آن واحد.

وإذا انتقلنا من الدين إلى الاجتماع، نجد التناقض الأشد في العلاقة بين اليهود الشرقيين (المزراحيم) واليهود الغربيين (الأشكناز). فالشرقيون الذين جاؤوا من العراق والمغرب واليمن وسوريا شكّلوا مع الوقت أغلبية سكانية، لكنهم ظلوا موضع نظرة دونية من الأشكناز الأوروبيين الذين أسسوا الدولة وهيمنوا على مؤسساتها، لم ينتخب رئيس وزراء واحد من أصول شرقية في تاريخ اسرائيل . وهنا يُمكن أن يُفهم سر عداء كثير من الشرقيين للعرب: إنه ليس عداءً أصيلًا، وإنما محاولة متكررة لنفي “عروبتهم” أمام نظرة الغربيين الفوقية. يريدون أن يُثبتوا ولاءهم لمشروع الدولة عبر مغالاة في التطرف ضد جيرانهم العرب، كي لا يُنظر إليهم كـ”عرب متنكرين” وهنا يطول البحث أيضاً، معظم اليهود الشرقيين يعيشون تناقضاً يفتخرون بالمطبخ العربي وعادات شرقية لكنهم يكرهون العرب لكن بدرجات متفاوتة ، فتجد يهودا عراقيين يعزفون المقامات ويبكون على بغداد والكرخ والرصافة وهم في اسرائيل .

وفي موازاة هذه التشابكات، يظل الإعلام الإسرائيلي جزءًا من الرواية الرسمية: يسمح بهوامش نقد، لكنه لا يتجاوز الخطوط الحمراء للدولة. ومن هنا فإن الاعتماد عليه كمرآة للفهم يُعادل النظر في زجاج مُضلَّع: ترى صورة، لكنها مشوهة. أما إسرائيل، فهي لا تكتفي بما نراه، ففي داخل المؤسسة العسكرية والامنية ثمة قسم كامل تحت عنوان “اعرف عدوك”( الترجمة الدقيقة : الوعي بالعدو )، يُدرّس تفاصيل المجتمع العربي: عاداته، ثقافته، أمثاله الشعبية، وأسلوب حياته اليومية. الغاية ليست المعرفة لذاتها، بل المعرفة كأداة سلطة، كسلاح استراتيجي.

ولذلك فإنّ إسرائيل – رغم تناقضاتها الداخلية – تعرفنا نحن أكثر مما نعرفها هي. هي تدرسنا في الجامعات ومراكز الأبحاث، بينما نكتفي نحن بمقال مترجم أو خبر منسوب إلى صحافة عبرية. والمعرفة في النهاية ليست مجرد نقل أو ترجمة؛ إنها معايشة وفحص مباشر للتجربة من داخلها. إسرائيل ليست دولة جيش وسلاح فحسب، بل دولة رواية أيضًا، تعيد إنتاج ذاتها بالأسطورة والتوراة والتعليم والإعلام. وإذا جعلت اسرائيل من “اعرف عدوك” قاعدة استراتيجيةوعليه ، في المقابل ، ثمة حاجة عربية بالفهم العميق لإسرائيل وطبيعتها والتحولات فيها ،لا عبر صدى الكلمات، بل عبر فهم عميق يحتاجه من يبحث عن رواية مضادة او مواجهة ويُؤسس لوعي مختلف!