مصيدة العسل: كي لا نخسر العملية التربوية التعليمية في القدس

غسان عبد الله
مع احتلال إسرائيل للجزء الشرقي من مدينة القدس، في الخامس من حزيران عام 1967، حاولت إسرائيل بسط سيطرتها على التعليم في هذا الجزء المحتل، لكنها واجهت مقاومة صلبة رفضت المحاولة الإسرائيلية هذه. قاد حملة المقاومة كل من التربوي الفذّ حسني الأشهب، وأ. بهجت أبو غربية، والمحامي إبراهيم أبو بكر (والذي تم إبعاده عن أرض الوطن مع أ. بهجت أبو غربية)، والتربوية علية نسيبة، والناشطة الاجتماعية زليخة الشهابي، والسيدة دورس صلاح، ولاحقًا انضم لهم المهندس إبراهيم الدقاق، والمهندس حسن القيق، والمهندس داود اسطنبولي.
تتوزع الجهات المشرفة على التعليم في القدس على: الأوقاف الإسلامية، والتي باتت تعرف مدارسها لاحقًا بمدارس حسني الأشهب، والتي باتت تتبع وزارة التربية والتعليم الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو، (وإن كان دور الوزارة بمثابة الحاضر الغائب، بدليل إقدام حكومة بينت على إغلاق مكتب التربية والتعليم في البلدة القديمة من القدس واذعان السلطة للقرار من خلال الانتقال إلى بلدة الرام، أحد ضواحي مدينة القدس)، ومدارس تشرف عليها مؤسسات دينية إسلامية ومسيحية خاصة، ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين.
يشكل التعليم للفلسطينيين ليس فقط جواز سفر لتحسين ظروفهم المعيشية والاجتماعية، وبالتالي المساهمة في إحداث التنمية المستدامة المنشودة، بل هو عامل جذب قوي للعمل الوطني الوحدوي: على سبيل المثال لا الحصر، نستشهد ب:
• الهبّة الوطنية التي حدثت مع بداية العام الدراسي الجديد في أكتوبر سنة 1968 (حيث تأخر افتتاح السنة الدراسية آنذاك، بفعل هزيمة حرب حزيران 1967، ومحاولة الاحتلال تطبيق المناهج الإسرائيلية في مدارس القدس الشرقية المحتلة، حينها تصدت شخصيات وطنية تربوية، ومن كافة الاتجاهات السياسية لهذه المحاولة بإعلان الإضراب والعصيان (يتقدمهم مهندس العملية التعليمية في القدس حتى رحيله، الأستاذ حسني الأشهب، والأستاذ بهجت أبو غربية، والمحامي إبراهيم بكر (تم إبعادهما إلى الأردن)، أ. زليخة الشهابي، أ. دورس صلاح، إلى أن تمت الاستجابة لطلب الاستمرار في تطبيق المنهاج الأردني في هذه المدارس والإبقاء على امتحان التوجيهي فيها. للتاريخ، لزامًا أن نذكر أن وزير التربية والتعليم الأردني في حينه، أصدر قرارًا يعتبر فيه طلبة الضفة الغربية ناجحين في الامتحان بسبب الحرب. انضم لاحقًا لهذه الثلة من الغيورين المهندس إبراهيم الدقاق، المهندس داود الاستنبولي، والمربي نهاد أبو غربية شقيق أ. بهجت أبو غربية. ((لمزيد من المعلومات راجع: الدقاق، إبراهيم: التعليم في القدس، 1983، الملتقى الفكري العربي- القدس)).
• هبة تعليمية نقابية مطلبية بادر إليها قطاع المعلمين في المدارس الحكومية عام 1977 وتواصلت إلى أن جاءت مبادرة لاحقة، والتي تمثلت بقيام العاملين في قطاع التعليم، في الانصهار، بغض النظر عن المشارب الفكرية والانتماءات السياسية المختلفة، في لجان نضالية لوائية، تمخض عنها تشكيل اللجنة العامة لمعلمي الحكومة، انخرط فيها ممثلو جميع التنظيمات والاتجاهات الفكرية، فنالت إسناد ودعم القوى الوطنية المنطوية تحت لواء منظمة التحرير الفلسطينية. تعرض البعض منهم للاعتقال والبعض الآخر للفصل من وظيفته. للتاريخ نسرد بعض الأسماء: أ. مالك مرمش، أ. عمر عساف، أ. كمال حنون، أ. نهى البرغوثي، وأ. فدوى اللبدي، أ. عبد العزيز شنار، أ. عبد الكريم كنعان، أ. صلاح زهران.... (للمزيد من المعلومات، راجع كتاب النقابي أ. عمر عساف في هذا الخصوص والذي صدر عن مؤسسة مواطن في حينه).
• تجربة ثالثة تجلى فيها العمل الوطني الوحدوي الفلسطيني، وهي محاولات تشكيل جسم نقابي موحد لكافة الأطر التعليمية في الوطن (حكومة، وكالة غوث، مدارس خاصة، كليات وجامعات). بدأت هذه المحاولة عام 1983 من خلال تشكيل اتحاد العاملين في قطاعات التعليم والذي استمر دوره حتى البدء بممارسة التعليم الشعبي بعد إقدام الاحتلال على إغلاق المدارس في 19/12/1987 خلال انتفاضة 1987. مع تزايد الحاجة لتلبية الاحتياجات المطلبية، ارتأى فرع التعليم في القيادة الموحدة للانتفاضة تشكيل اتحاد مستقل للمعلمين الفلسطينيين، وبالتنسيق الكامل مع اللجنة العليا لشؤون المناطق المحتلة في منظمة التحرير الفلسطينية، حيث كانت هناك كتل نقابية مختلفة الأسماء والولاءات التنظيمية مثل: كتلة حركة الشبيبة للمعلمين، اتحاد لجان المعلمين الديمقراطيين، جبهة العمل للمعلمين، وكتلة اليسار للمعلمين (التنظيم الشيوعي في حينه). نعتذر هنا عن عدم ذكر أسماء ممثلي هذه الكتل وذلك لعدة أسباب نراها مشروعة.
تواصلت الجهود لتشكيل اتحاد معلمين وحدوي إلى عام 1991، حيث تم عقد لقاء موسع لعدد كبير من أعضاء كتلة الشبيبة الفتحاوية في مسرح الحكواتي بالقدس وتم الإعلان عن تشكيل اتحاد للمعلمين من لون واحد، بعد أن فشلت اللجنة التحضيرية لتشكيل اتحاد يضم الجميع قبل اجتماع المعلمين في الحكواتي بقرابة شهر (وثائق تدوين هذا الاجتماع لا زالت محفوظة لدى بعض من أعضاء اللجنة التحضيرية هذه).
• في ظل هذه الخلافات التنظيمية، كان الطرف الآخر يعدّ بكل ما أوتي من دهاء في تفتيت العملية التعليمية، بدءًا من تهميش دور بعض كبريات المدارس الرسمية إلى دور لا يذكر في مجال التربية والتعليم من خلال تحويلها إلى مراكز لتعليم آخر (لغة عبرية، دورات نظرية في تدريب السياقة ...)، وإهمال لبعض المؤسسات التعليمية المشهورة منذ القدم (الكلية العربية مثالا)، وتضييق الخناق على معظمها (المدرسة الرشيدية، المدرسة العمرية، المدرسة المأمونية للبنات، والمدرسة اللوثرية مثالا)، الأمر الذي أجبر أحد المدارس في سوق الدباغة على إغلاق المدرسة وتحويل المنشأة إلى عمل آخر.
ينطلق الكاتب هنا من مقولة الأديب الشهيد غسان كنفاني "إن كنا قد خسرنا المعركة السياسية، عار علينا أن نخسر المعركة الثقافية"، وأنا أضيف بأن فشلنا في المعركة التربوية التعليمية هو بمثابة انهيار إحدى الركائز الأساسية للهوية الوطنية.
وما أن بدأ فيروس العمل الفئوي انتشاره، والابتعاد عن العمل الوحدوي، حتى قام الطرف الآخر بالمزيد من الانتهاكات بحق التعليم في القدس، نذكر منها:
• الإمعان المتعمد في تهميش مدارس حكومية لها تاريخها العريق، كما أشرنا أعلاه، مما أدى إلى انخفاض عدد الطلبة الملتحقين بها، وتدني نسبة النجاح في امتحان التوجيهي، ناهيك عما حصل لمدرسة لجنة اليتيم العربي المهنية ومدرسة دار الأيتام المهنية حيث انكمش وبشكل كبير دورها الريادي منذ القدم.
• تسهيل فتح المزيد من مدارس المقاولات وزيادة الإغراءات المالية للقائمين عليها، مما أدى إلى انخفاض حاد في عدد الطلبة الملتحقين بمدارس المدينة، لاسيما المدارس الخاصة.
• البدء في فرض المنهاج الإسرائيلي عنوة على الطلبة الفلسطينيين في مدارس القدس الشرقية، وتكثيف حملات المداهمة والتفتيش خلال الدوام المدرسي للتأكد من استخدام المنهاج الإسرائيلي المحرف.
• البدء في توسيع تنفيذ مصيدة العسل (honey trap) والمتمثلة في قيام الجهات الإسرائيلية المختصة بإعطاء الأذونات لفتح مدارس ما يعرف باسم مدارس غير رسمية وغير قانونية ولكن معترف بها، وتسمى في الشارع الفلسطيني مدارس المقاولات، والتي من أهدافها الخفية:
• تدمير البنية التعليمية العريقة في القدس مساهمة في جهود التهويد للمدينة.
• الهروب من مسؤولية السلطة القائمة بالقوة التي تجبي الضرائب (ذات المسميات المختلفة والمتنوعة) من واجبها في بناء مدارس وتأمين احتياجات العملية التعليمية، مستعيضة بذلك بهذا النمط من المدارس (مدارس المقاولات)، إذ تقوم بلدية الاحتلال بدفع مبالغ شهرية إلى المقاولين مشغلي هذه المدارس من الفلسطينيين مع إغراءات مادية عديدة، ووجدت ضالتها في بعض من تجاوب معها، إذ بادر هؤلاء المشغلون إلى استئجار بنايات، غالبيتها غير مرخصة من هذه البلدية، يتركز معظمها في منطقة سمير أميس – كفر عقب، مخيم شعفاط، كمناطق تابعة جغرافيا للقدس منذ القدم.
جنت إسرائيل من ذلك فائدة أخرى تتمثل في عدم ضخ طلبة فلسطينيين إلى مدارس القدس داخل جدار الفصل العنصري (منهم مع أولياء أمورهم)، الأمر الذي ساهم في شلّ الوجود العربي والحركة التجارية في القدس، إذ كان آلاف الطلبة يتوجهون صباحًا إلى هذه المدارس ويعودون منها مساءً وذلك قبل بناء جدار الفصل.
لم تمض سنوات، حتى عادت الجهات الرسمية الإسرائيلية إلى القيام بتحريف المنهاج الفلسطيني المطبق عبر حذف أشعار وآيات قرآنية ومصطلحات جغرافية معينة، تبع ذلك، وبكل فظاظة وخرق للقوانين والأعراف الدولية، مطالبة هذه المدارس البدء بتطبيق المنهاج الإسرائيلي، وفي حالة عدم الاستجابة، تتوقف المساعدات المالية، لدرجة مداهمة طواقم بلدية رسمية، ترافقها قوات من الشرطة الإسرائيلية، للصفوف المدرسية بغية التأكد من تطبيق المنهاج الإسرائيلي، كما حصل مع الكلية الإبراهيمية ومدارس الإيمان.
يمكن القول إن نسبة عالية من المدارس الخاصة، بما فيها تلك التي كانت قد تأسست إبان العهد الأردني، مسيحية كانت أم إسلامية، تتلقى الدعم المالي بموجب السياسة الإسرائيلية هذه، فقط مدارس قد لا تتجاوز أصبع اليد الواحدة لا تتلقى دعمًا ماديًا من هذا القبيل، (مدارس الأوقاف الإسلامية ومدرسة الحصاد التابعة إلى جمعية الفتاة اللاجئة، وهي جمعية نسوية مخضرمة في القدس).
من أبرز التحديات التي تواجه التعليم في القدس المحتلة:
• تعدد الجهات المشرفة على التعليم في القدس (ما آلت إليه مدرسة لجنة اليتيم العربي مثالا على ذلك) وقيام بعض المدارس الخاصة بتطبيق امتحان البجروت الإسرائيلي بديلا عن التوجيهي الفلسطيني مستخدمين مناهج إسرائيلية، ضاربة عرض الحائط الموقف الوطني حيال ذلك.
• غياب دور وطني فاعل يشرف على التعليم في القدس، فالسلطة بمثابة الحاضر الغائب وبقية المؤسسات محدودة الإمكانيات والقدرات المالية والتكنولوجية، وهنا لا بد من تسجيل التقدير والاحترام إلى مبادرات نوعية تقوم بها مؤسسة فيصل الحسيني حيال بعض المدارس في القدس.
• غياب رؤى عملية قابلة للتنفيذ والتطبيق، قد يكون الضعف هنا فلسطينيًا حيث تسود الفئوية الضيقة والانقسامات السياسية.
• جدار الفصل العنصري الذي شتت العائلات الفلسطينية اجتماعيًا وسيكولوجيًا واقتصاديًا.
• تعمد اعتقال الطلبة لا سيما في المراحل العمرية المبكرة (أحمد مناصرة 12 عامًا ورولا باكير 14 عامًا، إضافة إلى قتل وحرق جثمان الطفل محمد أبو خضير في شعفاط القدس).
• يكمن التحدي الأكبر في تفشي ظاهرة البطالة في القدس وارتفاع نسبة الفقر، إذ حوالي 39% من سكان القدس الشرقية يعيشون دون خط الفقر، وهذا حسب إحصاءات (مؤسسة التأمين الوطني الإسرائيلية) والذي تم نشره في الإعلام العبري والعربي، الأمر الذي أوجد منسوبًا عاليًا من اللامبالاة والحافزية إلى الانخراط في العملية التعليمية.
• محاولات تدمير ما تبقى من أسس تعليمية متينة من خلال نشر وإقامة معاهد ومراكز تعليمية وسيطة بين بعض الشباب ومؤسسات تعليمية وهمية، إذ يقوم مثل هؤلاء الوسطاء ببيع كراتين، يسمونها شهادات تعليمية وبمختلف التسميات والدرجات العلمية.
• الافتقار المتنامي إلى غرف صفية وبنايات مدارس مجهزة بالبنية التعليمية التربوية، تصلح لتكون مدرسة فعليًا.
• الحاجة إلى تدريب وتأهيل طواقم الهيئات التدريسية والإدارية وتزويدها بمهارات تربوية تعليمية في ظل الأزمات، من شأنها المساهمة في إعادة بناء ذات الإنسان المقدسي بالأخص.
• غياب منهاج مدرسي موحد تتوافق عليه الرؤى التربوية التعليمية الفلسطينية كي نصل إلى الأهداف المنشودة من التعليم الذي يستهدف المضطهدين.