عالـم مجنــون..!

يونيو 19, 2025 - 09:30
عالـم مجنــون..!

نحن نعيش في عالم مجنون، عالم لم يعُد الإنسان فيه يميز بين الحق والباطل، ولا بين الصواب والخطأ والحرام والحلال. عالم أصبح فيه القوي يبرر لنفسه ما يحرّمه على أخيه الضعيف. إنسان أناني طماع مجنون يريد كل شيء لنفسه دون أن يترك لأخيه الإنسان شيئا يقتات عليه أو يعيش من أجله. عالم إنسانه قاسي القلب، معدوم الضمير، محدود العقل، قصير النظر، ساديّ الشعور يتفنن في افتعال الشر ويتلذذ على ألم الغير. عالم لم يعُد فيه الإنسان يقدر الحياة أو يثمّن قيمتها إلا عندما يحرم منها أو يفقدها؛ وإلاّ كيف نفسر ما يحدث اليوم من قتل وترويع للأبرياء والمدنيين؛ وكيف نفسر إطالة الحروب والمطمطة في إيجاد الحلول وكأن المتحاربين يعيشون في فيلم لا في نار الجحيم؛ وكيف نفسر الدعاية المضادة التي تفبرك الأخبار بكل الوسائل الخسيسة لتحقيق مآرب جهنمية شخصية فتقلب الحق باطلاً والباطل حقاً، والخير شراً والشر خيراً، والعدو صديقاً والصديق عدواً، والحقيقة سراباً والسراب حقيقة؛ بل كيف نبرر انتهاج الأكثرية لأسلوب المراوغة والكذب والنفاق والتضليل وكأنها أصبحت زاد العصر الذي يقتات عليه الصغير والكبير والمتعلم والجاهل والمؤمن والكافر، والغني والفقير؟  

نعم، نحن نعيش في عالم مجنون، عالم لا يرى فيه الإنسان أبعد من أرنبة أنفه. عالم مزقته المصالح المادية على حساب المبادئ والأخلاق والشرائع السماوية. عالم مزقته الرغبات الشخصية على حساب الصحة والعافية والراحة النفسية، فأصبح لا يفكّر إلا في المقالب، ولا يعيش إلا على المشاكل، ولا ينام إلا على المصائب، ولا يستيقظ إلا على الحروب وكأنها شيء عادي في جدول روتين حياته. وأكثر، تراه يجد متعة وهو يعيث في الأرض فساداً أينما ذهب، ويبث الفتنة ويثير الفواحش في مكان وبلد وحتى في المعابد والكنائس والمساجد. إنسان مجنون يعيش في عالم مجنون هوايته إثارة النعرات والتفريق بين الطوائف والأديان، فيجعل من القوم مئة قوم، ومن الدين ألف طائفة وحزب لكي يقتل بعضهم بعضا ويتناحرون تارة باسم الدين وتارة باسم التفوق والرقي والعنصرية والحضارة. إنسان لا يعرف قلبه الشفقة ولا يشعر بالرحمة وكأنه يعيش في غابة حيوان يتربص فيها لأخيه الإنسان كي ينقضّ عليه ويفترسه ويأكل لحمه وكأن لم يكن شيئاً مذكوراً. إنسان متناقض يدّعي حقوق الإنسان وهو ينتهك حقوق الإنسان، ويتظاهر بحماية الأطفال والعجزة والمرضى والنساء وهو يعتدي عليهم ولا يوفر لهم أي حماية، بل وتراه يمعن في هضم حقوقهم وإيذائهم متناسياً أنه من جنسهم يشترك معهم في النوع البشري والصفات البيولوجية من جوع وعطش وتعب وإرهاق، وما يعتري النفس والروح من فرح وحزن وخوف وغضب وحب وكره وأماني وأمنيات. لقد نسي إنسان هذا العالم المجنون بأنه مهما بنى وعلاّ، وسرق ونهب، وقتل وسفك، وكدّس الثروات واغتصب، فلا يأخذ أكثر مما يحتاجه في هذه الدنيا الفانية، وأن حياته ستظل قصيرة على هذه الأرض وستنتهي حياته غداً أو بعد غد مهما طال به العمر والزمان. لقد نسي إنسان هذا العالم المتهور أنه بطمعه ينسف أتعابه ويهدم كل ما بناه وشيده طيلة عمره، وبتعصبه يدكّ حضارته بيده ويحرق العالم من حوله بحيث لا يبقي فيه حجر ولا ضرع ولا شجر ولا نبات ولا حيوان! والسؤال الذي يطرح نفسه، لم كلّ هذا التنافس؟ أليشبع غروره ونوازعه العدوانية ويحقق أهدافه الآنية المادية الشهوانية التي لا تعمّر طويلا وستزول سريعا عاجلا أم آجلا؟

فلو علم إنسان هذا العصر المجنون أن الله عندما خلق الكون خلقه بطريقة أوجد فيها مكانا لجميع مخلوقاته مهما تكاثروا، لما انساق وراء غرائزه وفقد عقله وشن الحروب وقتل ودمر؛ ولو علم أن الله سبحانه وتعالى هو الرزاق يرزق كل الناس مهما قل عددهم أو كثر، لما تنافس على الغذاء وشن الحروب وقتل الأطفال والنساء والشيوخ والشباب؛ ولو آمن بأن الله حق لا يسكت على الظلم والظالم، لما تعدى على حقوق غيره وظلم ونهب وسرق وقتل وشرد وخالف بأعماله الشيطانية كل سنن الأنبياء والأديان السماوية، والتي أبسطها "من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا"، مع نهيه له بألا يسرق ولا يكذب ولا يزني...إلخ من التعاليم التي ما أرسلت إلا للارتقاء بالإنسان وتفضيله وتكريمه على سائر المخلوقات.

ومع هذا، علينا ألا نيأس، وسنظل نتضرع إلى الله بأن يصحو إنسان هذا العصر من غفلته، ويثوب إلى رشده، ويتخلص من جنونه، ويستغفر على كل ما فرط به بحق نفسه وحق غيره. وقد يأتي زمن يرتقي فيه الإنسان بحيث يصبح يتقزّز وهو يقرأ عن تاريخ أسلافه ما كانوا يفعلونه ضد بعضهم البعض في العصور الغابرة، والتي هي عصرنا الحاضر؛ وقد يستهجن أيضا كيف كانوا يسفكون دم إخوتهم في الإنسانية كما يفعل الحيوان؛ أو على الأقل قد يضحك من طمعهم وإيثارهم الحروب على استمتاعهم بالحياة والعيش براحة وسلام.

 من يدري، قد يأتي هذا العصر الذي يصل فيه من الرقي والتطور فيصبح كالملاك يستهجن ما يفعله إنساننا الحاضر وتاريخه الممرغ بالدماء. وإلا فهل ما نشهده اليوم من حروب إيذانا بقرب الساعة والتي لا تقوم إلا على شرور الناس؟ نأمل ألا يأتي هذا اليوم المشؤوم وينتهي العالم ويزول، لا سمح الله.