"منطقة جيم : جوهر الصراع على الأرض والسيادة في المشروع الوطني الفلسطيني"

مايو 28, 2025 - 17:42
"منطقة جيم : جوهر الصراع على الأرض والسيادة في المشروع الوطني الفلسطيني"

"منطقة جيم : جوهر الصراع على الأرض والسيادة في المشروع الوطني الفلسطيني"

د. ســليمان جـــرادات

رئيس الهيئة الفلسطينية لحملة الدكتوراه في الوظيفة العمومية

في ظل تشابك الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والامنية التي تحكم الواقع الفلسطيني، تبرز منطقة "جيم" بوصفها قضية مركزية للصراع الاستراتيجي بين أصحاب الحق  بالأرض والمشروع الوطني الفلسطيني ومخططات الاحتلال الإسرائيلي الذي يحاول ان يخضع هذه المنطقة، التي تمثل اكثر من 60% من الضفة الغربية والقدس الشرقية  بواقع ممنهج لسيطرة أمنية وإدارية واستيطانية كاملة من قبل سلطات الاحتلال، وتعد خزانا طبيعيا حيويا يحتوي على معظم الأراضي الزراعية والمياه الجوفية والمقالع واحتياطات الموارد الطبيعية والمعدنية وأماكن سياحية ودينية ، والمساحات المخصصة للتوسع العمراني الفلسطيني المستقبلي ، إلا أن السياسات الإسرائيلية حولت هذه المنطقة إلى منطقة استعمار ميداني تتجلى فيها أدوات التفتيت الجغرافي، بإقامة المستوطنات والبؤر الاستيطانية وتوسع القائم منها ، والطرق الالتفافية  وجدار الفصل العنصري والهيمنة الاقتصادية والأمنية على مداخل ومخارج تلك المناطق وتقطيع اواصل القرى والمحافظات الفلسطينية بالحواجز العسكرية الدائمة والمؤقتة التي تجاوزت الالف حاجز خاصة بعد احداث 7 أكتوبر ، مما جعلها واحدة من أكثر الملفات حساسية وتعقيددًا على كافة المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية .

 ولا تقتصر السيطرة الإسرائيلية على مظاهر الاحتلال العسكري التقليدي، بل تمتد لتشمل بنى الهيمنة الإدارية والمؤسساتية، حيث تستخدم منظومة ممنهجة قائمة على الهدم الكلي والجزئي والمنع وتقييد حركة السكان لإعاقة أي محاولة فلسطينية للبناء أو الاستثمار أو استصلاح او تطوير الأرض باي مشاريع تنموية او عمرانية ، في هذا الإطار، يمنع الاحتلال الاسرائيلي المؤسسات الرسمية الفلسطينية والمواطنون الفلسطينيون من إقامة أي بنية تحتية أساسية من مدارس وعيادات وطرق وآبار مياه وخزانات زراعية ، في حين تمنح التراخيص بسهولة للمستوطنات معززة بالدعم الحكومي الإسرائيلي والتسهيلات الضريبية ، ليتحول الفضاء الاقتصادي في منطقة "جيم" إلى بيئة طاردة للمواطنين الفلسطينيين نتيجة تلك السياسات ، وجاذبة للمستوطنين، في سياق سياسة "إعادة هندسة" ديموغرافية وجغرافية لتكريس واقع دائم من التفوق الاستيطاني غير الشرعي والمخالف للقوانين والقرارات  الصادرة من مجلس الامن الدولي والمنظمات الدولية ، هذا الوضع لا يعكس فقط غياب السيادة السياسية والادارية والاقتصادية الفلسطينية، بل تقييد حركة القطاعات الاستراتيجية  الفلسطينية وهو ما يؤدي إلى حرمان الخزينة الفلسطينية من عوائد ضخمة تقدرها تقارير محلية ودولية  مليارات الدولارات سنويًا، وهي أرقام تكشف حجم الخسارة الناتجة عن عدم استغلال منطقة "جيم"، والفرص التنموية الضائعة التي كان من الممكن أن حدث تحولا جذريا في الاقتصاد الفلسطيني لو أُتيحت له فرصة التطور بحرية وسيادة فلسطينية كاملة.

في ظل هذا الواقع، تبدو السياسات الدولية عاجزة أو متواطئة عبر عقود مضت ، حيث تغيب آليات التنفيذ الجاد للقرارات الأممية التي تدين الاستيطان وانهائه  ، مثل قرار مجلس الأمن رقم 2334 والمئات من القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الامن الدولي والمنظمات الدولية واهمها قرار 242/338، فعلى الرغم من وضوح النصوص القانونية التي تجرم بناء المستوطنات وتعتبرها عائقا أمام الامن والسلام وانتهاكًا للقانون الدولي، فإن هذه القرارات تبقى دون فاعلية حقيقية في ظل غياب الإرادة السياسية للقوى الكبرى والإقليمية ، خصوصًا الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، اللتين تواصلان تقديم الدعم المادي والسياسي بالرغم من التغير في الخطاب الاعلامي والسياسي  لبعض دول الاتحاد الأوروبي في الآونة الأخيرة لصالح حل الدولتين ووقف العدوان والحرب على المحافظات الجنوبية ( فطاع غزة) ووقف اعتداءات المستوطنين واقتحامات الجيش الإسرائيلي للمحافظات الفلسطينية الشمالية  ، الا انها ما زالت مع تبرير انتهاكات الاحتلال وتستخدم أدوات القانون الدولي بمعايير مزدوجة، حيث يعاقب من ينتهك القانون في مناطق معينة من العالم، بينما يكافأ الغيرعلى ممارساته .

رغم إدراك القيادة الفلسطينية لخطورة الواقع المفروض في المنطقة "جيم"، لا تزال الرئاسة والحكومة تضع هذه المنطقة في صلب الدبلوماسية والأولويات الوطنية ، باعتبارها جوهر حل القضية الفلسطينية وفقا للقرارات والمرجعيات الدولية ومفتاحا لتحقيق السيادة والتنمية المستدامة فقد تبنّى الرئيس محمود عباس منذ عقدين خطابًا سياسيًا ثابتًا في كافة المحافل الدولية حقوق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية ، داعيا المجتمع الدولي إلى تحمل مسؤولياته القانونية والأخلاقية، بينما تواصل الحكومة الفلسطينية بالرغم من الازمات المالية وحالة الحصار المالي وحجز الأموال الفلسطينية توجيه السياسات التنموية لتلك المنطقة لتعزيز صمود السكان في هذه المناطق رغم القيود الإسرائيلية.

في هذا الإطار تبرز الحاجة إلى إعادة صياغة استراتيجية فلسطينية شاملة ، لتنتقل من رد الفعل إلى الفعل السيادي، من خلال بناء اقتصاد وطني شامل يستند إلى رؤية سياسية واضحة، وتشكيل مجلس اقتصادي فلسطيني ليس مجرد هيئة استشارية فقط ، وانما اداة مساعدة للحكومة وأصحاب القرار في الدولة لتعزيز الشراكة والتخطيط الموحد وتوجيه السياسات نحو تنمية شاملة تدعم صمود الشعب الفلسطيني  وتعزز الفعل السيادي في ظل التحديات والمؤامرات السياسية والاقتصادية ، حيث سيساهم المجلس في توحيد الرؤية بين مؤسسات الدولة وتحقيق التكامل بين القطاعين العام والخاص من أصحاب الكفاءات والخبرات الاقتصادية كمطلب قانوني أو وطني في ظل واقع يتسم باستمرار الاحتلال الإسرائيلي  في اجراءاته الأحادية وتواطؤ القوى الكبرى، ما يشكل تهديدًا لمنظومة العدالة الدولية ذاتها.

إن واقع المنطقة "جيم" يمثل تجسيدًا لمعادلة السيطرة على الأرض والهوية والموارد، في ظل تآزر أدوات الاحتلال مع صمت المجتمع الدولي، يستدعي واقعها مشروعًا وطنيًا متكاملًا يعزز الوحدة الجغرافية والاقتصادية، باتخاذ خطوات جدية لتكريس السيادة الفلسطينية رغم صعوبة الظروف وتقصير المجتمع الدولي في إنفاذ القانون الدولي .