ما أشبه اليوم بالبارحة

الثاني من كانون اول القادم ذكرى سقوط الاندلس بعد ثمانية قرون بنى المسلمون خلالها مجدا وحضارة ، انارت في حينه دروب اوروبا المظلمة ، حين كانت الخلافة الاسلامية تسيطر على القارة العجوز سياسيا وجغرافيا وعلميا وادبيا ، والى حد ما دينيا ، الى ان دكها الوهن بعد انهيار الدولة الاموية ، وتمزقت الى دويلات وإمارات ، على رأس كل منها أمير يكيد للاخر ويتحالف مع الخصوم لينصره على شقيق الامس ، فيسارع المتربصون من اصدقاء اليوم ، ومن كانوا خصوم الامس الى اظهارالوجه الحسن في العلن ، واخفاء ما يبيتونه له في الباطن بانتظار الفرصة للانقضاض عليه والقضاء على حكم المسلمين وطردهم من بلاد الاندلس ، فانخرط من اطلق عليهم في حينه " أمراء الطوائف " في حروب لا تنتهي سعيا وراء الجاه والسلطة ، تخللها الانغماس في حياة اللهو والترف ، حتى انهك الامراء وشعوبهم وسنحت الفرصة للممالك الصليبية لمهاجمة الامارات المسلمة واحدة تلو الاخرى ، وكانت غرناطة اخرمعاقل المسلمين التي سقطت في الثاني من كانون الثاني 1492 .
وتكرر المشهد في القرن الماضي ، بعد انهيار الامبراطورية العثمانية التي حكمت العالم زهاء ستة قرون ، - بعيدا عن الجدل حول حكمها - وكان الوطن العربي من محيطه الى خليجه تحت رايتها ، وتمزق الى 25 دولة بين مملكة وامارة وجمهورية ، ولكل دستورها وعلمها وعلى رأسها حاكم من " الاتباع " ، وحدود مصطنعة رسمها المستعمر الاجنبي ، متعمدا خلق الثغرات في إطار سياسة " فرق تسد " لاثارة الفتنة وضمان زرع العداء منعا لوحدة الامة ، ومن اخطر هذا الثغرات كان زرع جسم سرطاني في قلب الامة ، عبارة عن دولة تختلف في جميع مكوناتها عن الجسم العربي ، ومدها بكل الامكانيات لجعلها متفوقة " وفزاعة " يخشاها الجميع ، وصولا الى التذلل لكسب رضاها ، حتى لو وصل الامر الى تسخير المقدرات المحلية لخدمتها بطاعة عمياء وتبعية مطلقة ، وتجويع الشعوب وانهاكها لقتل اي مد جماهيري ، واستخدام وسائل القمع المختلفة غير التجويع ، لصرف الانظارعن التفكير بالتصدي لها !! ارضاءا للسيد الغربي دون اكتراث للدماء الزكية التي روت الارض العربية ولا زالت رفضا للعبودية وبحثا عن الحرية والكرامة المسلوبة .
المتتبع للتاريخ العربي والاسلامي منذ سقوط الاندلس الى يومنا هذا وما بينهما من انهيارات عربية واسلامية مشابه الى حد كبير ، يجد اوجه التشابه في اسباب انهيار الامة والتبعية للغرب والمساهمة في صنع السيد الغربي والولاء له بطاعة عمياء ، ولعل ابرز هذه الاسباب هي :
1 . شيوع النزعات القومية والطائفية والقبلية ، والدينية المتطرفة ، لتفتيت وحدة الامة واحداث الفرقة بين صفوفها .
2 . تغليب المصالح الفئوية والذاتية ، حتى لو كان ذلك ضمن اطار سياسة التحالف والخصوم ، على حساب المصالح العليا للامة والوطن .
3 . انتشار الفساد في صفوف الطبقات الحاكمة ، وانخراط البعض من الموالين فيه وتبوئهم مناصب عليا وجعلهم من المتنفذين في الدولة ( البطانة الفاسدة ) ، مقابل تجويع الشعوب وقهرها واخضاعها للعمل سعيا وراء قوتها اليومي فقط .
4 . فساد النظام السياسي واعتماده على الحكم الفردي المطلق البعيد عن مبدأ الشورى ، والعدل ، والعمل على توريث الحكم من ذات النسل .
5 . خلق طبقة من علماء الدين ( شيوخ السلاطين ) والسياسة والفلسفة ، على مقاس الطبقات الحاكمة ، من المطبلين والمسحجين ، لتسويق افكار على اساس انها واقعية ، عقلانية ، حضارية ، وما هي الا املاءات مستوردة من السيد ، لبث اليأس والشك بالقدرات وتحطيم الروح المعنوية والخنوع للاملاءات المفروضة .
6 . الاستئناس بثقافات مستوردة على حساب قيمنا وثقافتنا .
7 . اغراق الشعوب بامراض اجتماعية على راسها المخدرات ، لالهائها عن واقع الحال المرير وصرف البوصلة عن الاهداف والقيم والاخلاق الوطنية السامية .
8. اغراق الشعوب حيادية التفكير بحياة اللهو والترف وزرع النزعات الفردية لابعادهم عن التعاضد والتكاتف.
ولعل هناك اسباب اخرى كثيرة ، ولكن يمكن القول ان الطبقة العربية الحاكمة ساهمت عن سبق الاصرار والترصد في صنع السيد والانخراط بمبدأ العبودية ، مقابل السلطة والجاه وحياة اللهو والترف ، والقبول بالفتات من خيرات البلاد والتفريط بالكم الاكبر منها للسيد ، بل واغراق دويلاتها بالديون الطائلة واهمال كل وسائل النهضة المحلية ، والمغالاة في الاعتماد على السيد بشتى المجالات ، الى درجة تجسيد مبدأ ارتداء زي التغريب وتقمص شخصية بعيدة عن ثقافتنا ، كشكل من اشكال التحضر حسب اعتقادها .
في واقع الحال ما هذه السياسة الا مستوردة للحط من قيمنا ، والابتعاد عن الابداع والانتاج ، رغم ادراكنا بان هذا السيد الغربي وادواته المصطنعة هي وراء جميع الازمات والمصائب والكوارث التي عصفت بالمنطقة العربية وشتتت الشعوب ودفعت بهم الى الهجرة خاصة من ذوي العقول المبدعة ، والنزوح واللجوء والتشرد ، الا ان هذه الطبقة ولقصر نظر عندها ما زالت تصر على التبعية للسيد والانصياع لرغباته الخبيثة لدوام سلطانها على حساب شعوبها المقهورة .
ولعل ما اطلق عليه "الربيع العربي" ، بعيدا عن المخططين له ، الا انه عبارة عن تعبير حقيقي لحالة الاحتقان لدى شعوب الامة ، ما دفعها الى الانتفاضة ضد الظلم والعبودية ، سعيا لتغيير واقع الحال نحو الافضل ، ولكن جرت الرياح بما لا تشتهي سفن هذه الشعوب المقهورة .
من دون شك ان الامة العربية ، حيث واقع الحال المرير ، تمر بأدق المراحل واشدها خطورة على كيونتها ووجودها ، ويمكن القول ان الواقع العربي المؤلم ربما أكثر سوءا مما كان عليه ابان الحقبة الاندلسية ، فقد باتت الشعوب العربية منهكة جراء ما يحيط بها من ظلم الحكام واجهزة الدولة المختلفة ، ولا تطالب كما الاسلاف بالفتوحات ، انما تنشد فقط الحرية والانعتاق من عبودية السيد الغربي ، والتمسك بقيمنا التي اتخذها الغرب نبراسا له في تسيير اموره ، فيما ترك لنا مساوءه التي نتشدق بها كقيم حضارية .
ولعل ما يجري في قطاع غزة على وجه الخصوص ، وعموم اراضي فلسطين من عدوان وحشي بربري صهيوامريكي فاق ما فعلته النازية والفاشية ، من ابادة جماعية وقتل طال البشر والشجر والحجر ، والمقدسات الاسلامية والمسيحية وعلى رأسها المسجد الاقصى المبارك ، خير مثال على حالة الوهن الذي تعيشه الامة ، والتي ان قصدت التخلص من التبعية واستخدمت ما تملك من اوراق بيدها لاستطاعت تغيير الحال ونصرة المظلومين في فلسطين وعموم الوطن العربي ، وجسدت القول الربناني فعلا :"كنتم خير امة اخرجت للناس" تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، لا العكس كما هو حاصل في ايامنا هذه !!