السياسة الاقتصادية للحكومة الأردنية الجديدة
جواد العناني
مضى أكثر من شهرين على تشكيل حكومة الدكتور جعفر حسان في الأردن، والتي أدت اليمين الدستورية أمام الملك عبد الله الثاني يوم 18 سبتمبر/ أيلول من هذا العام. ولا يجوز الحكم على أداء حكومة بمجمله من خلال شهرين من العمل، فهذه مدّة قصيرة لا تكفي لإصدار تقييمات عن أدائها، وبخاصة في المجال الاقتصادي.
ولكن يجوز لنا القول إن الحكومة الجديدة تأخذ كتاب التكليف السامي الموجه لها بمنتهى الجدية.
ومن جملة ما فعلته أنها قامت بمراجعة بعض قرارات حكومة الدكتور بشر الخصاونة، وأدخلت تعديلات عليها، بعدما تبين لها أن بعضها قد وضع على عجل دون دراسة كافية، والبعض الآخر كان يسير بالاتجاه الخاطئ.
الفرق بين الحكومتين هو أن حكومة الخصاونة كانت تركز على لملمة الأمور المالية العامة، والحرص على تقليل العجز فيها، فلذلك انحازت إدارتها للاقتصاد نحو أسلوب "إدارة المحافظ"، أما حكومة حسان فيبدو أنها تريد أن تعيد الثقة إلى قطاع الأعمال والعاملين فيه. فهي تجتمع بهم أكثر، وتستمع لشكواهم، وتسعى ضمن حدود تطبيق البرنامج التصحيحي مع صندوق النقد الدولي من ناحية، وضبط العجز في الموازنة العامة من ناحية أخرى، وانفراج السوق من ناحية ثالثة، إلى أن تجد لها مساراً متوازناً بين هذه الحدود.
الكل يعلم أن الضريبة هي المصدر الأساس لإيرادات الحكومة، أي حكومة، والإفراط في فرض الضرائب وزيادتها والتشدد في أسلوب جمعها له أثر كبير على الأداء الاقتصادي بكليته. وإذا زادت نسبة الضريبة عن حد معين، فإنها ستقع في الفخ الضريبي الذي فسره عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته الصادرة عام 1378، والتي أعاد إحياءها الاقتصادي الأميركي أرثر لافر، الذي كان مستشاراً اقتصادياً للرئيس جيرالد فورد ونصحه بعدم رفع نسبة الضريبة لأنها وصلت لحدها الأقصى، وأي رفع لها سيقلل عوائدها، لأن شكل منحنى الضريبة هو نصف دائرة مقلوبة، وبرفع الضريبة تزداد الحصيلة حتى تصل إلى أعلى المنحنى، وأي زيادة بعد ذلك ستنتقل الحصيلة إلى الجانب الآخر من المنحنى، حيث تكون العلاقة بين رفع الرسوم من ناحية وحصيلة الضريبة من ناحية أخرى سالبة ومتناقصة.
وفي مقال نشره الصحافي سلامة درعاوي في صحيفة الغد الأردنية يوم السبت، الثالث والعشرين من هذا الشهر، والموسوم "2024 عام ماليُّ صعب"، يقول إن الهبوط في إيرادات 2024 يقدر أن يصل بها إلى 946 مليون دينار عما كان مقدراً لها أن تصله في قانون الموازنة لذلك العام. صحيح أن هنالك أسباباً موضوعية لهذا التراجع، معظمها خارجي وبعضها ناتج عن ظروف الاقتصاد الداخلية، ولكن الأمر يبقى مقلقاً. ولما قامت الحكومة السابقة بإعفاء السيارات الكهربائية من الرسوم الجمركية ازداد الطلب عليها كثيراً، فتراجع الإيراد من جمارك السيارات وتحول منحنى الطلب بانحياز واضح لصالح شراء السيارات الكهربائية.
ولذلك أخدت حكومة الدكتور الخصاونة قراراً بإلغاء ذلك الإعفاء. وهمس البعض دون أي معلومات موثوقة، أن الإدارة الأميركية هي التي ضغطت على الأردن في هذا الشأن، لأن الاعفاء تسبب في انحياز الطلب إلى السيارات الآسيوية على حساب المستوردة من الولايات المتحدة والدول الغربية. ولكن قرار الإعفاء ساهم أيضاً في تقليل الطلب على مادة البنزين التي تساهم بـ12% من الإيرادات المحلية للحكومة.
كل هذه الأمثلة وغيرها الكثير دفعت بحكومة حسان إلى إعادة النظر، فقررت مثلاً منح شركات استيراد السيارات الكهربائية فرصة حتى نهاية العام لبيع هذه السيارات بنسبة 50% من الرسوم الجمركية عليها. ومع أن هنالك تفاصيل خلافية على تواريخ دخول السيارات ومواعيد دخولها "المنطقة الحرة"، إلا أن القرار أراح البائعين، ومنح الراغبين في شراء سيارات كهربائية الفرصة لذلك.
وبناء على كتاب التكليف الملكي، يحرص حسان وأعضاء حكومته على زيارة مختلف محافظات المملكة والالتقاء بأهلها لكي يستمع إلى مطالبهم. وقد أثارت فكرة عقد جلسات لمجلس الوزراء في المحافظات نقاشاً مثل أيّ شيء آخر في الأردن، حيث التطبيق للآية الكريمة في سورة الكهف: "وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا". ويتساءل البعض عما إذا كانت هذه الزيارات ستفتح باب الشؤون المطلبية وتلهي الحكومة عن التركيز على أولويات الوطن. وهناك محافظون يمثلون الملك في كل محافظة، وهناك مجلس نواب قوي قادر على حمل شكاوى الناس وطلباتهم إلى الحكومة. فلماذا هذه الاجتماعات؟ بينما يدعو آخرون إلى ضرورة أن يتفاعل الوزير مع الناس، وأن يخالطهم ويستفيد من الحديث إليهم لكي يضبط سياساته.
أمام الحكومة تحديات واضحة. وهناك نية صادقة منها لتشجيع الاستثمار. ولكن هيكلة صنع القرار الاستثماري في الأردن، والذي يعتمد عليه في حل المشكلات المؤرقة في القطاع الاقتصادي الفعلي، كالبطالة، والأجور والفقر، وإماطة الروتين من أجل تيسير الاستثمار السليم.. أقول إن هذه الهيكلية ناقصة، وليست منظمة. ولا مانع أن تعيد الحكومة النظر في بعض المؤسسات مثل وزارة الاستثمار ودمجها بوزارة التخطيط. وهل التخطيط إلا مهمة استثمارية؟
والأمر الثاني هو أن الجهاز المصرفي الأردني لا يفي بتوفير التمويل المطلوب للاستثمار. والمقترح هنا هو إنشاء بنك استثماري حكومي يقوم بعملية الرافعة المالية للاستثمارات العامة لتحفيز الاستثمارات الخاصة. ولكن حذار أن يتحول البنك إلى إدارة حكومية روتينية. ومثلما يدير البنك المركزي باستقلالية السياسة النقدية، فإن المطلوب هو إنشاء بنك استثماري يدير قرارات الاستثمار في الأردن ويعقّلها.
لا شك أن التحديات كبيرة أمام حكومة حسان، ووضع موازنة عامة عاكسة للأهداف ومتعاملة مع التناقضات التي تنطوي عليها يبين سد العجز ومواجهة المديونية والإيفاء بالالتزامات من ناحية، وتحفيز النمو الاقتصادي من ناحية أخرى يشكل أهمها.
ولقد رفعت الحكومة في مشروع الموازنة العامة الذي دفعت به ليأخذ مساره الدستوري، وخصصت (1450) مليون دينار للمشروعات التنموية. لو أن نصف هذه الأموال وضعت في بنك استثماري فإن ذلك سيعقل المشروعات القابلة للتمويل، وسيساهم في خلق شراكات بين الحكومة والقطاع الخاص ويساهم في تمويل المشروعات الكبرى. إما إن بقي هذا المبلغ ضمن الموازنة العامة فسيذهب جزء مهم منه على النفقات الإدارية وستدار باقي الأموال بأسلوب لا يسمح بتحقيق معدلات التنمية القريبة من التي وضعت في وثيقة 23-33 التنموية أو ما سمي ببرنامج التحديث الاقتصادي.
وفي ضوء تجربتي التي تقارب (58) عاماً في الإدارة العامة، فإن قرارات الحكومة الاقتصادية في هذا الزمان تعتمد على الدراسات المبسطة في عالم أصبحت فيه النماذج الاقتصادية قادرة على توضيح مختلف الآثار التي ستنجم عن أي قرار اقتصادي عام. ولا بد من تقوية دور المجلس الاقتصادي والاجتماعي، وتشبيك علاقاته مع مؤسسات البحث الجامعية، والاعتماد على إحصاءات أكثر حداثة ودينامية ودقة. هذه الإصلاحات المؤسسية، والتي ورد بعضها في برنامج التحديث الاقتصادي ليست كافية إن لم تدعم مؤسسياً من الجامعات ودور البحث الأردنية.
البعض يقول إن التخطيط متوسط الأجل وطويله هو رفاهية لا يتمتع بها الأردن، فأحداث المنطقة وحروبها والغموض الظالم لا يجعل هذا التخطيط ممكناً. فالأردن محاط بظروف متقلبة، وأنه يجب أن يتقيد بما قاله كينز "يجب التركيز على المدى القصير، أما في الأمد الطويل فنحن كلنا ميتون".
هذه نظرية يجب رفضها، وهنالك نوعان من إدارة الدولة. واحدة تحتاط وتتحوط للمفاجآت والتقلبات غير المتوقعة، وهذه لها إدارتها وترتيباتها بصفتها جزءاً من الاستراتيجية للدولة العاقلة. وهذا لا يتنافى مع فكرة التخطيط الاستراتيجي الطويل الذي يجب على الأردن أن يجعله قطب الرحى في بنائه لمستقبله.
ومن خبرتي مع الدكتور جعفر حسان، وهي ليست كبيرة، لكنها بناءة، وقد تعاون مع المجلس الاقتصادي والاجتماعي لما كنت رئيسه وكان هو وزيراً للتخطيط. وقد نفذنا بتمويل عن طريق الوزارة عدداً من الدراسات المهمة. وكان مستجيباً وفاهماً لما يجب عمله، كما أن الرجل يتمتع بمزاج هادئ صبور، وشخصية متصالحة مع ذاتها. ولذلك أرى أنه بثقة الملك وتفاؤل الشعب، قادر على إنجازٍ مهم.