حال الناس (6)
د.غسان عبد الله
بعد أن تمعنت جيدا ، أثناء خلوة شبه طويلة ‘ في صومعتي ألخاصة ، قررت الكتابة لوصف الحال الذي لا يسّر ولا يبشّر بخير ، بل ينذّر باّت أكثر بؤسا وتدهورا ، رغم أنني أعي جيدا أن من احدى مهام الكتابة للشعب ، احلال الأمل ورفع منسوب التفاؤل لدى هذا الشعب ، لكن كوني لست من أصحاب فلسفة بيع الوهم وخداع الشعب كي أنال رضاه ، ولقناعتي بأنه من عمق ادراك حدة الأزمة/ الأزمات يتولد الدافع والمحرك للتغيير والانجاز وبالتالي يرتفع منسوب الأمل القائم على أسس عتيدة.
لا أكتب وصف هذه الحالة لمن له أذنان ترهقهما نجوى الحقيقه ، ولمن ليس له هوى يعميه عن الحق ، معبراً عن شعوري ازاء ما يكتب ويحكى رسمياً وبشكل غير رسمي ، وذلك بعد أن حبست الذات في موضوعية متشددة ، ما أكتبه هو نوع من التعبير والافصاح عما كبته في السريرة منذ زمن ، دون استطراد مدركاً أن ما من باب يفتح أمامي الا ليؤدي إلى أبواب لاحصر لها .
أنا واحد من هذا الشعب، الذي وعي لوجوده، لذا قررت أن لا أعوم في مفهوم دوري الانساني فقط، دافعي الذاتي هو أن الدعوة لم تقفل، ويجب أن لا تتعلق بالكتمان والتستر ، دون جلبة، من احدى دوافع الكتابة هنا ، ما شاهدته في أكثر من مرة وأكثر من موقع، قيام فتية من هنا وهناك بعد أن قرّروا طمس التاريخ الأصيل ، ليلقوا بين يديك ما يودون صنعه من قناع يتستر به ذوو الغايات ، لأنهم المقربون ، الأمرون والناهون ، قرروا الاستيلاء على قميص عثمان وأخذوا ، بعد أن أمعنوا فيه ، توسيعاً وقصاً وتنزيلا حتى جعلوه ، على قدر مقاساتهم فقط ، أنيقاً بنظرهم ومغرياً ومنيراً لمن حولهم .
صحيح أن الغالبية من أبناء شعبي باتت صفر اليدين ، لكنها لن تكون صفر النفس من الأمجاد ، وأكبرها محاربة الغش والكذب والطمع والظلم، بعد أن قرروا محاربة الجهل ، الجهل بأبسط الأمور وهو الذي يرى بأم عينيه من يكذب عليه كل صباح ومساء .
للأسف ،عمَ الجهل المجالس والمؤسسات المحشوة في المتعلمين وأنصاف المثقفين وبات الجاهل يستذكر القول " إن الصبر مطية من اتقى والرضى والتسليم منارة من ارتقى " ، أخذ هولاء الجهلة يكيلون الثناء ويضخمون ويعظمون ، يبجلون ويفخمون ، كل هذا لأن الجهل يأخذ بصاحبه إلى الادعاء البغيض والقول المنكر والاستخفاف بعقول الناس ، متناسياً حقيقة ما من کلام عظم به من لا يستحق الا أضحك الأذكياء وأن أرضى الأغبياء ، ولا نصيحة عندي لهؤلاء الجهلة الا إما أن يحتموا بالصمت أو الاستعاذة بالمعرفة والحقيقة وهي أشد ابراء . نعم تراهم يجمعون قسطاً لا بأس به من العلم ، وبدلاً من توظيف العلم لاحقاق الحقيقه تراهم يطمسون ما يشاءون ويحرفون ويزيفون لإخراج المنشود في ثوب الحقيقة ، فينتحلون الألقاب والأنساب ، ويختلقون الحوادث، يقبَحون الوجه الصبيح ويجمَلون الوجه القبيح . الدافع الوحيد لهولاء ، هو الخبث والسخف ، وإلا كيف يقبل لذاته بان "يخرّف " بما لا يعرف والحقيقه تقلصت تحت قدميه ، ولكنه للمناصب ساعياً ، وكما قال الشاعر : "عجباً لمن طلب المناصب جاهلاً إن المناصب لا تدوم" .
الأحمق في ساعة وظفوه، فكان في رجل المسؤول كالحذاء الضيق ،وتكون النتيجة إفقار اهل القلم والمعرفه بعد أن بخل عليهم الزمن كما هي العادة منذ عصور غابرة كيف لنا كشعب ، صهر وجوده عبر الزمن بترابه الوطني وكرامته الانسانية ، كيف لنا أن تلهث وراء كذبة كبرى أسموها فض النزاع والصراع، بعد أن صودرت الأرض واتسعت المستوطنات بأيدينا ، فنحن العمال والمقاولون الذين شيدناها ، ونحن سماسرة العولمة والدمقرطة وفق النهج الذي يريده الآخر، ونحن من الذي بعلم أو غير علم ، نساعد الآخر في ضرب الاحلام والتطلعات ، كل ذلك بغية نيل الرضا وصك صكوك الوكالات والامتيازات.. اه .. ربما ترفع الشعارات وتلهث وراءها دون ادراك معناها ، نتحدث عن تربية الأجيال الشابة ، بناة المستقبل ، حافظي الكرامة والكبرياء، وتكون الخطوة الأولى في تربيتهم الصفع والتدليل معاً ، هم للصفع كأداة ارشاد وتوجيه ، وهم للتدليل ، كأداة تعبير عن الحب والاعتناء ، وبعدها نجد أنفسنا امام جيل خائر العزيمه يغمى عليه من أولى جولات المواجهة مع الذات ، وان كان الحماس هو الدافع الذاتي له عند مواجهة الطرف الآخر ، أي فقط هو الموت الذي يحركهم . تركنا الساحة ، وتركنا الكتاب ، قد يكون السبب وراء الكتاب أننا أجبرنا على القراءة في المدرسة والبيت، ولكن لماذا تركنا الساحه ؟ هل أصبحنا غير قادرين على اللعب ؟ هل توصلنا إلى قناعه بعدم جدوى حراسة المرمى ، أو لم يعد هناك من هو مستعد للقيام بتلك المهمة ، فالكل يطمح لأن يكون أفضل هدّاف ولو في معارك الكلام ، وتركنا المرمى بدون حارس ! جراء ذلك لم نعد سوى أرقام على شاشات التلفاز وأكثر من ذلك مصدر رزق وكالات الأنباء العابثة بمصيرنا ومشاعرنا وهمومنا .. تقتل ، تستشهد ، تجرح ، تطارد . تغتال ، تعتقل و........... وتكون المحصلة واحدة : بالخسارة هذا اذا قالوها ، لانهم منشغلين بالبرنامج الآتي أو الحلقة الجديدة أو السهرة الموعودة .
أهي حقا ليست معركتنا ولم تعد تخصنا ، لماذا اخترنا أن نقف بعيداً مشاهدين من وراء ستار ؟ ألا يحزنك هذا ؟ أنا لا أدعوك للبكاء ، لأن البكاء هو السد المانع والقامع لإنجاز الانتصار . فقط ، علينا ليس فقط تكرار سؤال ما العمل ؟، لكن أيضاً الابداع في إيجاد الأجوبة وان تعددت واختلفت في مفرادتها وتراكيبها ، بقيت تصب في الهدف الواحد الذي لا حياد عنه ، فلا حرقة الدعاء ولا تنهد الصلاة قد ينبض الحياة في الأذرع والجباه ، لأنه فقط بالعمل ينبجس النبع من الصخرة وينبت الغداء وردا ساخن الحمرة ، به تختصر الزمان ، ونجني سنابل الغداء، و به نبقى وإن اختلفنا ، أصدقاء في متاهات الوجود الكئيب ، حيث يزداد الدمار وينتشر الفناء.