تاريخ وإنجازات الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس
كريستين حنا نصر
يعود تاريخ الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس إلى العام 1924، حيث كانت بيعة أهالي فلسطين للمغفور له الشريف الحسين بن علي بالوصاية، نظراً لمكانته وزعامته السياسية والدينية، وباعتباره خليفة وقائداً للأمة. وقد تولى المغفور له الملك ( الأمير آنذاك) عبد الله الأول مهام متابعة الإعمار والرعاية، بتكليف من والده الشريف الحسين بن علي. وبدأت الرعاية منذ فترة مبكرة، ففي العـام 1922، وبتوجيه من الشريف الحسين تم تأسـيس المجلـس الإسـلامي الأعلـى (وهـو منظمـة إسـلامية هـدفها الحفـاظ علـى تـراث مدينـة القدس والعناية به)، حيث خلص المجلس بعد مسح فنّي أجراه إلى حاجة المسجد الأقصى للصيانة والترميم، فكان إعمار العام 1924، بتبرع من الشريف الحسين بمبلغ حوالي ( 25 ألف جنيه ذهبي)، وهذا الاهتمام مرتبط أيضاً برعاية الشريف الحسين للمقدسات الإسلامية في الحجاز آنذاك.
واستمر الهاشميون في رعايتهم للمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس حتى اليوم، وحمل هذه الأمانة العظيمة مرتبط بتاريخ من التضحيات الأردنية قيادة هاشمية وشعباً دفاعاً عن القضية الفلسطينية والقدس، حيث تمسك الشريف الحسين أثناء مراسلاته مع مكماهون ( 1915-1916) بالدولة أو المملكة العربية المستقلة التي سعى لتوحيدها تحت قيادته بما فيها فلسطين، ولاحقاً رفضه لكل ما جاء في وعد بلفور عام 1917، وبقي الشريف الحسين على ثباته في الدفاع عن فلسطين، ليتعرض نتيجة موقفه القومي المخلص للنفي إلى قبرص ما بين عامي ( 1925-1931)، وبقي فيها حتى وفاته ليدفن في القدس. وعلى خطاه كان دور الملك عبد الله الأول في الدفاع عن فلسطين والقدس، ففي خطاب جلالته بمناسبة الاحتفال باستقلال المملكة الأردنية عام 1946 جاء ما نصه:" إننا نعاهد الله على الجهـاد المقدس دفاعاً عن فلسطين العربية، والعمل حتى تظل عربية"، فكان الدور البطولي للجيش العربي الأردني في حروب عام 1948 والتي استطاع فيها الحفاظ على الضفة الغربية والقدس، وحمايتها من الوقوع تحت الاحتلال الإسرائيلي حتى عام 1967. ولتوثيق العلاقة بين الأردن وفلسطين وتقوية جبهة حمايتها كانت وحدة الضفتين عام 1950م، ولأن القدس في قلب وضمير جلالته كان استشهاده على أبواب المسجد الأقصى عام 1951م، وعلى نهجه كانت جهود المغفور لهما الملك طلال بن عبد الله والملك الحسين بن طلال الذي أعلن عام 1954م عن إصدار قانون رقم (32) باسم قانون إعمار المسجد الأقصى المبارك والذي تشكلت بموجبه لجنة إعمار المسجد الأقصى، ولاحقاً على إثر حريق المسجد الأقصى المبارك بتاريخ 21 آب عام 1969م ، أمر جلالته باعادة الإعمار بما في ذلك إعادة بناء منبر صلاح الدين الذي دمر أيضاً في الحريق. وعلى الصعيد الدولي وبتوجيهات من جلالته للدبلوماسية الأردنية بالعمل الدؤوب في المحافل الدولية ومنظمات الأمم المتحدة، فقد صدرت نتيجة للجهد الأردني عن منظمة اليونسكو عدة قرارات، منها قرار عام 1981م القاضي بتسجيل القدس في قائمة التراث العالمي، وقرار عام 1982م القاضي أيضاً بتسجيل القدس في قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر، ولاحقاً ولأجل الإعمارات في الأقصى فقد تبرع جلالته بمبلغ مالي قدره ( 8.249.000 دينار أردني)، لتتولى شركة ( مايفان الإيرلندية) عام 1992م عمليات الإعمار، وقد شملت كساء قبة الصخرة بألواح النحاس، وتركيب أجهزة الإنذار والإطفاء. وعلى الرغم من إعلان جلالته عام 1988م قرار فك الارتباط الإداري والقانوني مع الضفة الغربية، إلا أنه تمّ استثناء الأوقاف والمقدسات في القدس من هذا القرار، هذه الوصاية التي أكدتها معاهدة السلام عام 1994م، حيث أفردت مادة في معاهدة السلام، وجاء في البند 3 من المادة 9 منها ما نصه: (تحترم إسرائيل الدور الحالي الخاص للمملكة الأردنية الهاشمية في الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس، وعند انعقاد مفاوضات الوضع النهائي ستعطي إسرائيل أولوية كبرى للدور الأردني التاريخي في هذه الأماكن)، وما يزال صاحب الوصاية جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين حفظه الله يواصل رعاية المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، إلى جانب الدور السياسي والدبلوماسي والإنساني المستمر في دعم الشعب الفلسطيني في كل الظروف، وقد تمّ تأكيد الوصاية الهاشمية التاريخية باتفاقية الوصاية عام 2013م بين صاحب الوصاية الملك عبد الله الثاني ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس.
واليوم، تتواصل العناية والرعاية الهاشمية بالمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، في عهد جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين، حيث تتولى المهمة مؤسسات رسمية منها وزارة الأوقاف الأردنية من خلال مديرية أوقاف القدس التابعة لها والتي خصص لها هذا العام موازنة قدرها 17 مليون دينار إلى جانب التبرعات الهاشمية المتواصلة، وهناك أيضاً أكثر من ألف موظف تابع للأوقاف وأكثر من 50 مدرسة تشرف عليها الأوقاف، إضافة إلى المحاكم الشرعية التابعة لدائرة قاضي القضاة، ومجلس الأوقاف والشؤون الإسلامية في القدس، وهناك مؤسسات رسمية أردنية فاعلة مثل اللجنة الملكية لشؤون القدس تأسست عام 1971م، ولها دور توعوي إعلامي في رصد أخبار القدس ونشر الثقافة حولها، والصندوق الهاشمي لإعمار المسجد الأقصى، وقبة الصخرة المشرفة تأسست عام 2007م وهي الذراع المالية للإعمارات، وهناك أيضاً أكثر من 20 جمعية أهلية في الأردن تعمل لأجل القدس ولجان حول فلسطين والقدس في النقابات بما فيها نقابة الأطباء والمهندسين والمحامين، ولجنة فلسطين في كل من مجلس النواب ومجلس الأعيان أيضاً.
وبخصوص الإعمارت الهاشمية في عهد الملك عبد الله الثاني فهي مستمرة وتشمل الكثير من المحطات والمبادرات، ومن ذلك إعادة منبر صلاح الدين إلى مكانه في المسجد الأقصى المبارك عام 2007م، وفي عام 2012م أمر جلالته بإنشاء كرسي الإمام الغزالي في القدس "جامعة القدس" وآخر في الأردن، وفي عام 2016م مبادرة إعمار القبر المقدس في كنيسة القيامة، وفي عام 2017م مبادرة ترميم كنيسة الصعود على جبل الزيتون، وقد تبرع جلالته بقيمة جائزة "تمبلتون" التي تسلمها عام 2018م نظير جهوده ودوره العالمي في ثقافة السلام، في أعمال إعادة إعمار المقدسات الإسلامية والمسيحية في مدينة القدس، إضافة إلى الجهود الإغاثية والإنسانية ومبادرات إرساء الوئام بين أتباع المذاهب والأديان، وهي رسالة هاشمية عالمية تؤكد على أهمية دورهم في حفظ الوضع التاريخي القائم في مدينة القدس، وفي عام 2022م وقّع جلالته على إنشاء وقفية المصطفى لختم القرآن الكريم في المسجد الأقصى المبارك، وتتواصل تبرعات جلالته وتوجيهاته بالعناية بالمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس.
إن جهد الملوك الهاشميين على مدى الوصاية الهاشمية تجاه المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، يمثل قوة ودعم وإسناد عالمية للشعب الفلسطيني والأمة الإسلامية، وذلك لحفاظها على هذا الإرث الإسلامي المقدس المتصل بحادثة إسراء الرسول محمد عليه السلام من مكة المكرمة إلى القدس والمعراج منها، كما أن الرعاية الهاشمية ساهمت في الحفاظ على المدينة المقدسة، وعززت من السياحة إليها من كل العالم؛ زيارة المسلمين للمقدسات الاسلامية، والمسيحيين للمقدسات المسيحية.
.............
وما يزال صاحب الوصاية جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين حفظه الله يواصل رعاية المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، إلى جانب الدور السياسي والدبلوماسي والإنساني المستمر في دعم الشعب الفلسطيني في كل الظروف.