سجالات واختلافات على الساحة الفلسطينية.. ما البديل؟

يوليو 14, 2024 - 10:09
سجالات واختلافات على الساحة الفلسطينية.. ما البديل؟

أحمد صيام

سجالات كثيرة ومتعددة تعصف بالساحة الفلسطينية، الرسمية والشعبية، منذ السابع من أكتوبر والعدوان الإسرائيلي الوحشي الذي أعقبه على قطاع غزة والذي طال البشر والحجر، وشتى مناحي الحياة منذ تسعة شهور ويزيد. سجالات توضح مدى التباين في الآراء حول هذا العدوان، وما آلت إليه الأمور وسط هذا الكم الهائل من القتل والتدمير الذي لحق بالقطاع، وامتدادته إلى القدس والضفة الغربية، مروراً بإجراءات تعسفية بحق الأسرى، وحصار اقتصادي جائر، وفعل عسكري قطع أوصال الضفة من خلال حواجز وبوابات حديدية وسواتر ترابية. سجالات توضح حجم الفجوة في المزاج الحزبي المنقسم على أمره، بين مؤيد للمقاومة ومعارض لها، وصلت إلى حد الهرج والمرج والتراشق الكلامي وكيل الاتهامات. سجالات تعبر عن مدى التخبط الذي وصل إليه قادة الأحزاب والفصائل، دون نتائج تذكر، في وقت يرى فيه البعض أن المقاومة بدأت تعطي ثمارها على الصعيد الدولي !! وفي المحصلة سجالات تعبر عن الفرقة المستمرة في الخارطة الفلسطينية الرسمية الحزبية والسياسية والجغرافية والاقتصادية، مقابل وحدة والتفاف حول المقاومة في غالبية الوسط الشعبي.
تياران بأيدلوجيتين مختلفتين، أحدهما يرى أن المقاومة المسلحة، خاصة بعد معركة طوفان الأقصى قد جلبت الويل والمصائب للشعب الفلسطيني، وقتلت عشرات الآلاف، وشردت الملايين ودمرت كافة المرافق السكنية والحيوية، وألحقت خسائر فادحة في البشر والحجر والشجر، وقادت الشعب إلى التهلكة، لذلك يرون في المسار السياسي الحل الأنسب لأنه يجنب الشعب الفلسطيني المهالك، ويرون في ما تسمى "المقاومة الشعبية السلمية" ، الطريقة الأنسب لمقاومة الاحتلال. أما التيار الآخر فيرى في المقاومة الفخر والعزة، والخيار الأفضل لمقارعة الاحتلال ودحره، وصولاً إلى الحرية والاستقلال خاصة بعد فشل المسار السلمي على مدى العقود الثلاثة الماضية الذي رأوا فيه خنوعاً وذلاً ، مع التذكير بأن الاحتلال وداعميه يحترمون القوي ويحتقرون ويستغلون الضعيف.
انقسام لا يسمن ولا يغني من فقر، ولكن الفارق بدأ بالاتضاح، فإن كانت المقاومة المسلحة للاحتلال وقض مضاجعه، متهورة وغير مسؤولة وتقود إلى التهلكة، والمسار السياسي الذي بدأ منذ أكثر من ثلاثين عاما لم يجد نفعا، والمقاومة الشعبية ما هي إلا ملهاة فارغة المضمون، وتلحق الضرر على أرض الواقع ونتائجها عكسية، ولا تقل في ضررهما – إن جاز التعبير- عن المقاومة المسلحة، طبعاً مع وجود فوارق في المسارين من حيث النتائج . فما البديل للخلاص من احتلال يتنكر لحقوق الغير، ولا يدخر جهداً في استغلال أية فرصة، واختراق أية ثغرة، واستثمار كل نقطة ضعف في الجانب الآخر لتحقيق مآربه، وتنفيذ مخططاته متفاخراً بقوته التي لا تقهر، وجبروته الذي لا يستطيع أحد الوقوف أمامه؟؟
انعطافات عديدة ومتعرجة مرت فيها القضية الفلسطينية خلال العقود الماضية. انتكاسات كادت تقضي عليها، ولكن وبالرغم من قسوتها، قدم الشعب الفلسطيني تضحيات جسام على مذبح الحرية من شهداء وجرحى وأسرى ومنافٍ ، ولم يحنِ رأسه أو تتحطم إرادته، أو يتوقف عن المقاومة، لايمانه بحقوقه المشروعة، وعدالة قضيته، بالرغم من ظلم الغريب والقريب له، حتى ولو كان بين صفوفه من يثبط العزائم راضياً لنفسه الخنوع والذل، إلا أن الغالبية كانت على الدوام داعمة لمقاومة الاحتلال، بشتى الوسائل المتاحة.

إنجازات عملية السلام

لا يمكن لأحد أن ينكر أن هناك بعض الإنجازات قد تحققت من عملية السلام، ولكن سرعان ما تبخرت لأن أساسها كان عبارة عن شرك وقع فيه الفلسطينيون، وأدى إلى إرباك في الحالة الفلسطينية، ودس السم في الجسد الفلسطيني، حيث تدهورت حالته من خلال إجراءات وممارسات داخلية في أغلبها مفتعلة وصنيعة من يكيدون للشعب الفلسطيني، ودخيلة على قيم ومبادىء الشعب الفلسطيني وإرثه النضالي.
وليس عيباً القول أن هناك إخفاقات وأخطاء ارتكبت في العمل الفلسطيني المقاوم، وكان هناك في بعضه تغليب للمصالح الفئوية والحزبية على حساب المصلحة الوطنية العليا، ما أدى إلى دخول الشعب في دوامات لا حصر لها، أدت إلى إضعاف مقاومته، وتراجع مكانة قضيته في الاهتمامات العربية والدولية وحتى المحلية. والأكثر إلحاقاً للضرر بالقضية الفلسطينية كان الانقسام بين قطبي العمل الوطني الفلسطيني (فتح وحماس ) والذي أدى إلى انقسام سياسي وجغرافي واقتصادي بين شطري الوطن، أتقن العدو استغلاله لاختراق الجبهات العربية والدولية، وفكفكة دائرة التأييد للحقوق الفلسطينية. وكان هناك إخفاق فلسطيني – سواء كان متعمداً أو عن غير قصد- من الكل الفلسطيني في معالجته وإبقاء الكرة في الملعب الفلسطيني، بعد تنصل المجتمع الدولي من التزاماته بقبول نتائج انتخابات عام 2006 التشريعية والتي فازت بها حركة حماس، ورفض التعاطي معها ومحاربتها، حيث فرض حصاراً جائراً على الشعب الفلسطيني الذي وقع في شرك الانقسام من بعد الاقتتال الداخلي للسيطرة على سلطة هزيلة بالأساس وأيدولوجية تختلف عن الأخرى لكل منهما، تحكم تحت حراب الاحتلال.
وليس عيباً القول أن السلطة الحاكمة في الضفة الغربية لا حول لها ولا قوة، وغير قادرة بما تملكه من سلاح بدائي، ويحظر عليها استيراد أي نوع من السلاح، على مقارعة الاحتلال أو التصدي لممارساته الهادفة إلى إنهاكها والقضاء عليها، ومع ذلك فهي تحاول جاهدة بوسائلها الدبلوماسية والتنظيمي، وما أوتيت من قوة ، ممارسة الحد الأدنى من واجباتها ومهامها تجاه الذين يعيشون تحت مظلتها، وتوفير ما أمكن لتعزيز الصمود ومواجهة التحديات.

ما قبل السابع من أكتوبر ليس كما بعده

ولم يعد سراً القول، أن ما قبل السابع من أكتوبر الماضي ليس كما بعده، فمعركة طوفان الأقصى التي شنتها المقاومة الفلسطينية بقيادة حركة حماس، وما تبعها من ردة فعل إسرائيلية وحشية، وعدوان همجي طال البشر والحجر والشجر، وبالمقابل صمود أسطوري لثلة من المقاتلين بإمكانيات متواضعة لا تقارن بقدرات دولة الاحتلال لأكثر من تسعة شهور، قلبت الموازين كافة، وغيرت المعادلات جميعها، وأيقظت العالم من سباته، وكشفت فاشية وعنصرية دولة الاحتلال التي كان ينظر إليها كثيرون على أنها الديموقراطية الفريدة بالمنطقة، والقوة الوحيدة القادرة على حماية مصالح جميع حلفائها، وإذا بها أوهن من بيت العنكبوت، وغير قادرة حتى على حماية نفسها، وما كانت لتستمر في عدوانها وحتى وجودها، وتمعن في وحشيتها، لولا دعم القوى الغربية، وبعض الدول العربية، بقيادة أمريكا.
وبات من الواضح أيضا، أن طوفان الاقصى أعاد الاهتمام العالمي بالقضية الفلسطينية، وخاصة لدى الأجيال الصاعدة في المجتمع الدولي، والتي سيقع على عاتقها رسم السياسات والاسترايجيات المستقبلية لدولها، والمسيرات الشعبية العارمة التي اجتاحت العواصم الغربية، خاصة طلبة أكبر وأهم الجامعات الأوروبية والأمريكية، وثمارها اتضحت في نتائج الانتخابات التي أدت إلى فوز اليسار في فرنسا، وأطاحت بحزب المحافظين الداعم لدولة الاحتلال في بريطانيا، واستبداله بحزب العمال المعتدل، والأهم إقرار دول أوروبية بحقوق الفلسطينيين العادلة، واعترافها بالدولة الفلسطينية، وحشر دولة الاحتلال في زاوية تضيق مع الوقت وتدفع باتجاه عزلتها ونبذها، ولعل حادثة المطعم في فيتنام والذي رفض استقبال عائلات إسرائيلية وأسماهم قتلة الأطفال، دليل واضح على ذلك .
وسط هذه السجالات والانقسامات في الرأي، بات من الواضح أن الجسد الفلسطيني بحاجة إلى عمليات جراحية عاجلة تعمل على استئصال الأورام الخبيثة منه، والممتدة لأكثر من 17 عاما، حتى يتعافى وينهض من جديد، وعدم تفويت الفرصة السانحة، واستثمار المتغيرات الدولية، وما تحقق من انجازات بعد السابع من أكتوبر، بما يخدم المصلحة الوطنية العليا للشعب العربي الفلسطيني، وكبح جماح المتربصين الداعين إلى قيادة بديلة للشعب الفلسطيني، والشروع في إجراءات وحدوية جماعية، تتجاوز بيانات الإدانة والاستنكار التي لا تساوي الحبر الذي كتب به، والتصدي بشكل موحد للمخططات الإسرائيلية، وتجاوز اتفاقيات أوسلو التي عفى عليها الزمن، وتنصلت منها دولة الاحتلال، والتوجه نحو تشريع الدولة الفلسطينية المستقلة، وفق ما أقرته الشرعية الدولية.