بين التعليم المهني أو الأكاديمي!!

يوليو 11, 2024 - 10:52
بين التعليم المهني أو الأكاديمي!!

د. عقل أبو قرع

في الدول المتقدمة وصاحبة الاختراعات والتطور، وفي دول تقع ضمن المراتب العشر الأولى في أقوى الاقتصاديات في العالم، مثل ألمانيا واليابان على سبيل المثال، يتجه غالبية الطلاب الذين ينهون المدرسة، أو حتى خلال المدرسة إلى التعليم المهني والتقني بأنواعه المختلفة، التعليم ذي المخرجات التي يحتاجها بل ويبحث عنها المجتمع والبلد، وبالأخص القطاعات الإنتاجية المتنوعة مثل الزراعة والصناعة والخدمات، التي تلبي احتياجات الناس المستهلكين المحليين، وتشارك في عملية التصدير، وبالتالي تساهم في نمو الناتج المحلي الإجمالي، وبل تعتبر هذه الأيادي المهنية الشابة المدربة من العوامل الأساسيه التي تحافظ على استدامة النمو الاقتصادي، وعلى قوة الاقتصاد بمؤشراته المختلفه، التي هي من أهم مؤشرات قوة الدول والمجتمعات، وأهم مؤشر على استدامة التطور.
وفي بلادنا، ورغم أنه في الفترة الأخيرة كان هناك نوع من التركيز أو الزخم باتجاه التعليم المهني، وحتى كانت هناك مبادرة من الحكومة لإنشاء جامعة متخصصة في التعليم أو التدريب المهني، إلا أن ذلك يأتي في ظل عدم حدوث أي تغيير جذري في فلسفة ومفهوم ونوعية التعليم، وبالأخص التعليم العالي عندنا، وكذلك في ظل الأرقام المرعبة حول نسب البطالة عند خريجي التعليم العالي والتي تتصاعد عاماً بعد الآخر، وكذلك في ظل مواصلة ارتفاع تكاليف التعليم العالي، وبالأخص في الظروف الحالية، وألاهم كذلك تواصل وجود تخصصات مكرره كلاسيكية مملة، بات خريجوها في انفصام عن سوق العمل عندنا واحتياجاته، وباتت احتياجات المجتمع بعيدة كل البعد عن مخرجاتها.
ورغم الاعتراف أن هناك اهتماماً متزايداً في الفتره الأخيره في بلادنا، سواء من قبل الجهات الرسمية أو من قبل الرأي العام من أجل التوجه نحو التعليم المهني، أو التعليم التقني، أو على الأدق التعليم غير الأكاديمي التقليدي الكلاسيكي، أي ليس التعليم الذي اعتدنا علية في الجامعات والكليات المختلفة، إلا أننا ما زلنا نرى عدم وضوح وجود خطة استراتيجية بعيدة المدى تتعامل مع التعليم المهني بشكل مستدام، أي بشكل يصبح يشكل جزءاً أساسياً من نظام التعليم في بلادنا، أي ليس مرتبطاً بمشروع هنا أو برنامج هناك أو توفر أموال من هذه الجهة المانحة أو تلك.
ورغم ذلك، فأن الاهتمام بالتعليم المهني، وبالأخص في أوضاع أو في ظروف مثل ظروف بلادنا، هي ظاهرة إيجابية تتطلب الدعم والتشجيع، سواء من ناحية النوعية أو الكمية، ولكي تصبح جزءاً أساسياً من استراتيجية التعليم في بلادنا، لا تتغير بتغير الأشخاص أو بتغير أولويات وبرامج الدعم والمنح، أو بتغير الحكومة ووزرائها.
والتعليم المهني يرتبط بشكل مباشر بأفاق العمل والتشغيل، ونسب البطالة، وفي بلادنا تبلغ نسبة البطالة وحسب الاحصاءات الحديثة حوالي 27% من القوى العاملة، وتصل هذه النسبة معدلات أعلى بكثير عند الخريجيين الجامعيين، وقد تصل إلى حوالي 80% عند الخريجين الجدد في بعض التخصصات، وهذا الوضع هو وضع مأساوي بكل معنى الكلمة، مأساوي للخريجين ولعائلاتهم التي استثمرت فيهم، وللوزارات المعنية بالتعليم العالي والتخطيط والعمل والاقتصاد وما إلى ذلك، وكذلك وضع مأساوي للمجتمع الذي يعتمد من أجل النمو والتقدم والتنمية على استثمار هذه الأجيال المتعلمة والمتدربة الشابة، من أجل مواصلة النمو والإنتاج بشكل مستدام.

أهمية التعليم المهني والتقني

وفي ظل هذا الوضع، تتجلى أهمية التعليم المهني والتقني، أو التعليم غير الجامعي والذي هو ربما أهم وسوف يكون أهم من التعليم الجامعي التقليدي في بلادنا، والذي تستثمر فيه الدول المتقدمة الجزء الأكبر من الميزانية ومن الخطط الاستراتيجية، والذي يقبل عليه الكثير في هذه الدول، ورغم الاهتمام المتزايد في التعليم المهني عندنا، إلا أن القليل قد تم على الصعيد العملي المستدام، من أجل تشجيع الإقبال على هذا التعليم أو خلق الفرص والإمكانيات والحوافز من أجل توجه الطلبة نحوه، ومن ثم ربطة وبشكل استراتيجي، سواء من حيث الكم اوالنوع مع احتياجات المجتمع ومع خطط الحكومة السنوية بعيدة المدى.
ومن أجل مواصلة الزخم في هذا الاتجاه، فإن ذلك يتطلب سياسات وقوانين وأنظمة من أجل زيادة الإقبال على هذا التعليم، وهذه القوانين من المفترض أن تحدد الأسس ومن ثم الحوافز من أجل التوجة إلى هذا التعليم، وهذا يتطلب إيجاد تخصصات متقدمة ومحترمة، تساير التقدم المتواصل في هذا المجال وتساهم في تقدم المجتمع كما ساهمت في تقدم مجتمعات أخرى، وليس فقط تخصصات تقليدية مثل التي اعتاد الناس عليها خلال عشرات السنوات الماضية.
وهذا يتطلب كذلك توفير الإمكانيات من مختبرات ومشاغل وأجهزة ومعدات وكوادر بشرية، وهذا يتطلب زيادة الوعي عند الناس لتغيير نظرتهم إلى التعليم المهني والتفني، وكأنه درجة ثانية بعد التعليم الجامعي الكلاسيكي، وهذا يتطلب الشراكة الاستراتيجية مع القطاع الخاص الذي لا يتقدم كما يتم في المجتمعات الأخرى بدون دعم والاعتماد على مخرجات هذا النوع من التعليم، والذي بدونه لا يمكن التعامل وبشكل جدي مع قضية البطالة في بلادنا.

ألمانيا المتقدمة مثالاً

وفي العديد من الدول ومنها دول متقدمة تكنولوجياً واقتصادياً وصناعياً ولا تعاني من البطالة وتداعياتها، وعلى سبيل المثال ألمانيا، يقبل غالبية الطلبة على التعليم المهني والتقني، وبدون حساسية أو شعور بأنه تعليم من الدرجة الثانية أو الثالثة، وتستثمر هذه الدول والقطاع الخاص فيه، وتتسابق الصناعة والشركات على خريجيه، ويجد الخريجون فرص عمل، ولا تبلغ نسب البطالة عند الخريجيين تلك النسب التي تنطبق على خريجي التعليم العالي في بلادنا، التي وعلى ما يبدو سوف تستمر حتى ايجاد استراتيجية وطنية بعيدة المدى، يمكن تطبيقها عمليا، للإقبال أكثر وللاستثمار أكثر وبشكل مستدام في التعليم المهني والتقني في بلادنا، من أجل أن يصبح الإقبال على التعليم المهني بديلاً وخياراً استراتيجيا، بعيداً عن التعليم التقليدي الذي اعتدنا عليه، والذي أصبح بدون جدوى في مجالات عديدة، وفي تخصصات مكررة، بعيدة كثيرا عن احتياجات سوق العمل وعن مدخلات تطور وتقدم المجتمع.

..........

تتجلى أهمية التعليم المهني والتقني، أو التعليم غير الجامعي والذي هو ربما أهم وسوف يكون أهم من التعليم الجامعي التقليدي في بلادنا، والذي تستثمر فيه الدول المتقدمة الجزء الأكبر من الميزانية ومن الخطط الاستراتيجية.