تغريب التعليم و التعلم

يونيو 26, 2024 - 10:32
تغريب التعليم و التعلم

فواز عقل

المقصود بتغريب التعليم هو تنويع مصادر المعرفة والشهادات والتخصصات، حتى لا نفاجأ في يوم من الأيام بأن كل أصحاب الشهادات من نفس الثقافة ونفس اللغة. ترددت كثيرا قبل أن أكتب عن هذا الموضوع المثير، أولا، لأنني لا أود أن أبدو وكأنني أفضل التعليم خارج الوطن العربي أو أنني أحب تقليد التعليم في الشرق والغرب مع أن الرسول الكريم قال: "اطلبوا العلم ولو في الصين"، وما أشار إليه ابن رشد حين دعا إلى دراسة العلوم مهما كان مصدرها والاستفادة من إنجازات الفكر بصرف النظر عن مصدرها.

لا أتحدث هنا عن تشريقة بني مازن ولا عن تغربية بني هلال، ولا أتحدث عن الانتقال من نموذج تعليمي واحد لكل المتعلمين إلى نموذج تعليمي لكل متعلم. لا أتحدث عن تعليم يوقظ العقل، ولا أتحدث عن خضخضة الأفكار، ولا أتحدث عن معلم يكتشف مواهب المتعلمين وينميها ويطورها ويوجهها، أنا أتحدث عن طلاق أساليب اجترار المعلومة، وثلاثية التلقين والحفظ والتذكر والاستخفاف بعقل المتعلم إلى غير رجعة. أنا أتحدث عن الراعي الذي يجوب السهول والجبال للبحث عن مرعى خصب ترعى فيه الأغنام حتى يخرج من بطونها الأجبان والألبان الشهية، وأتحدث عن النحلة التي تجوب الحقول شرقا وغربا للبحث عن رحيق مميز و ترجع به إلى الخلية لتخرج من بطونها عسلا سائغا للشاربين، وأنا أتبنى ما قاله الشاعر رشيد الخوري عن التنوع في المعرفة:

استق الحكمة لا يشغلك من أي ينبوع جرت يا مستق

فشعاع الشمس يمتص الندى من فم الورد و وحل الطرق

ومع هذا لدي ثلاثة أسباب للكتابة عن تغريب التعليم:

أولا، ما ورد عن الرسول الكريم بقوله "غربوا النكاح" أي تفضيل الزواج خارج نطاق الأقارب والعائلة لما له من منافع اجتماعية لا مجال للخوض فيها هنا. وأنا أؤكد هنا على كلمة تغريب المعرفة والشهادات لما لها من فوائد عظيمة على الفرد والمجتمع والتعليم. ثانيا، ما جاء في تقرير البنك الدولي حول مؤشر منحى التعليم لعام 2014 بأن دول شرق آسيا تقدمت على بقية دول العالم في التعليم نتيجة للتعاون في مصادر المعرفة والشهادات، حيث جاءت كوريا الجنوبية في المرتبة الأولى، واليابان في المتربة الثانية، وسينغافورا في المرتبة الثالثة، وهونغ كونغ في المرتبة الرابعة، وفنلندا في المرتبة الخامسة، وبريطانيا في المرتبة السادسة، وألمانيا في المرتبة الثانية عشر، وروسيا في المرتبة الثالثة عشر، وأمريكا في المرتبة الرابعة عشر. والملاحظ هنا أنه لا توجد أية دولة عربية في هذا المؤشر وأن نظام التعليم في دول شرق آسيا يجمع بين نظام التعليم والثقافة الفاعلة التي تعطي قيمة للجهد والاجتهاد والتنوع أكثر من الشطارة الموروثة. ثالثا، تعرفت وسمعت خلال سنوات دراستي وعملي الأكاديمي على حملة شهادات في التخصص نفسه من دول عربية وأجنبية ولاحظت أن المهارات الاجتماعية والثقافية والبحثية والتواصلية واللغوية والمنظومة القيمية وطريقة الحصول على المعلومة وطريقة التعامل معها مختلفة جدا فيما بينهم، وقد اتسعت الفجوة أكثر في "عصر الآيفون"، ووسائل التواصل الاجتماعي. وأود أن أطرح بعض الاسئلة تثقل كاهلي وكثيرين آخرين من المهتمين والتربويين، لأنني أعتقد أن تغريب التعليم أصبح ضرورة ملحة ومصدر قلق:

1-هل المهارات التي يمتكلها طالب تخرج من جامعة ما في الدول العربية هي المهارات نفسها التي يمتلكها طالب آخر يمكن أن يكون عربيا، وتخرج من جامعة في دول شرق آسيا؟

2-هل القيم الثقافية والاجتماعية والتواصلية والتعاونية التي يمتلكها طالب تخرج من جامعة عربية هي نفسها لدى طالب يمكن أن يكون عربيا وتخرج من جامعة ما في الشرق أو الغرب؟

3-هل هنالك خطورة عندما يكون مصدر الشهادات من مصدر واحد، وثقافة واحدة، ولغة واحدة ؟

رحم الله الشاعر الذي قال: حملوا الشهادة دون أي ثقافة ختموا العلوم وأطفؤوا القنديل

و كما يقال: ليس أخطر من المياه الراكدة!

4-هل أساليب توصيل المعلومة من جامعة ما في الدول العربية تركز على الإبداع والمثابرة والتفكير والنقد والحوار ؟

5-هل من المقبول أن يتخرج طالب من جامعة من دون معرفة حقيقية بلغة أجنبية حتى تكون لديه القدرة على الاطلاع على ما كتب حول تخصصه؟

6-هل صحيح أن كثيرين يعتبرون الشهادة نهاية المطاف، ولا يطورون أنفسهم ويغلقون الكتاب؟

7-هل نحن نتجه إلى عصر تحديد صلاحية الشهادة كالدواء والمعلبات؟

8-لماذا نحرص على التنوع في اللباس والمباني والسيارات ولا نحرص على تنوع مصادر المعرفة ومصادر الشهادات والتخصصات.

لهذه الأسئلة و غيرها أدعو إلى تغريب التعليم حتى لا نفاجأ في وقت قريب ونجد أن كل معلمي أجيال المستقبل لا يملكون مهارات المستقبل وبعيدين عن ما يحصل في العالم في مجال تخصصهم. أدعو إلى تغريب التعليم لتنويع مصادر المعرفة والشهادات والتخصصات التي يحصل عليها الطالب، وهنا أدعو إلى تعليم استثنائي من معلمين استثنائيين في كل شيء إلى طلبة استثنائيين يواكبون مهارات العصر، لأن من لا يواكب مهارات العصر من حملة الشهادات والتخصصات سيبقى على الهامش. وأقول "ليس جمال اليابان أو كوريا في مبانيها أو مصانعها أو فنونها بل يكمن جمالها الأعظم في أفكارها وعلمها وقيمها لأن الإسمنت المسلح لا يبني وطنا بل يبنى الوطن بتعدد وتنوع الأفكار والمعرفة والقيم التي تصون الأجيال وتزينها.

أحد المواقف التي قد تزعج أية مؤسسة أو شركة أو أية جهة أو مجتمع أن يأتي شخص جاهل فهلوي محدود القدرات والمهارات والخبرة، ويعتقد أنه يمتلك مهارة وقدرة و خبرة وأفكارا قد تقلب الطاولة وتقود إلى قفزة نوعية، وهنا أشير إلى بعض ما قال الشعراء:

آفة العلم أن الناس كلهم كل يدعي أنه في العلم كالجبل

قل لمن يدعي في العلم فلسفة حفظت شيئا وغابت عنك أشياء

إذا خلا المرء من فهم ومعرفة ظلمت نفسك لو تدعوه إنسانا

أدهى من الجهل علم يطمئن له أنصاف ناس طغوا بالعلم واغتصبوا

تخيل الشخص الذي بلغ الخمسين من العمر يرى الأمور كما كان يراها في الثلاثين من عمره، فقد أضاع عشرين سنة من عمره وأضاع المجتمع حتى لو كان صاحب شهادة عليا، وكما يقال: التنوع في الألوان هو الذي يعطي جمالا للوحة، وكذلك تنوع مصادر المعرفة والشهادات والتخصصات تعطي جمالا لحاملها، وأقول: يجمح التعليم والمعلم والطالب والمنهاج بلا رؤية، وأقول: أن عقلية قديمة وأدوات قديمة وشهادات قديمة لن تقود إلى التغيير وإلى عهد جديد، لأن ظهور الذكاء الاصطناعي سيعيد تشكيل استراتيجيات التدريس والمحتوى التعليمي والامتحانات والممارسات التعليمية والعلاقة بين الطالب والمعلم والمدرسة. وأقول: ينهار التعليم من أنصاف الناس، أنصاف المتعلمين، أنصاف المثقفين، أنصاف المنتمين، أنصاف الصادقين، أنصاف المهتمين، أنصاف العاشقين، أصحاب نفس النمط، نفس الأفكار، نسخة لمن سبقه. إن أية شهادة لا تعكس تنوعا وتواضعا ومواكبة هي ورقة حاملها والجدار سواء.

يقول ابن الوردي في كتابه مهزلة العقل: "الذي لا يفارق بيته الذي نشأ فيه ولا يقرأ غير الكتب التي تدعم معتقداته، ولا يتفاعل مع الآخرين، ولا يسافر، لا تنتظر منه أن يكون محايدا في تفسير الأمور ومتابعة الأمور، فمعتقداته تلون تفكيره. إن الإنسان الذي لا ينمو عقله إلا في حدود القالب الذي يضعه له المحتمع. من الظلم أن نطلب من إنسان عاش مع البدائيين أن ينتج لنا فلسفة جديدة أو علما جديدا أو يخترع شيئا ما أو ينجز المهام بطرق مختلفة.

و أخيرا، أنهي مقالتي بما حدثني به صديق تعلم في جامعات جنوب إفريقيا، حيث أخبرني بما هو مكتوب على لافتة في أحدى الجامعات "إن تدمير الأمة لا يتطلب استعمال القنابل الذكية ولا الصواريخ السريعة، فيكفي التلاعب في العملية التعليمية، وعدم مراعاة نوعية وجودة التعليم وتنوع الشهادات، والغش في الامتحانات، حيث يموت المريض على يد الطبيب وتنهار المباني على يد المهندسين، وتضيع العدالة على باب القضاة، ويهدر المال على يد الاقتصاديين والمحاسبين، لأن انهيار التربية والتعليم كفيل بانهيار الأمة والمجتمع. وأقول بكل فخر: نحن التربويون المحاورون نحن أصحاب اليقظة، أصحاب البوصلة، نصنع البوصلة ولا ننتظرها.

....

لهذه الأسئلة و غيرها أدعو إلى تغريب التعليم حتى لا نفاجأ في وقت قريب ونجد أن كل معلمي أجيال المستقبل لا يملكون مهارات المستقبل وبعيدين عن ما يحصل في العالم في مجال تخصصهم.