هل تبقى أسعار الفائدة الأميركية على حالها؟
جواد العناني
اجتمعت لجنة السوق المفتوحة FOMC التابعة لبنك الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) يومي 11-12 يونيو/حزيران قبل نشر هذا المقال. وراجعت اللجنة التقارير الاقتصادية عن التضخم والبطالة وغيرها من المؤشرات الاقتصادية الأساسية لكي تقرر ماذا تفعل بأسعار الفائدة الأساسية، أو بالأحرى سعر الخصم أو إعادة الخصم. فهل ستقوم بتخفيض سعر الفائدة كما فعل البنك الأوروبي المركزي وفق توقعات سابقة، أم أنها لن تتخذ قراراً بالرفع أو بالتخفيض، أي تثبيت سعر الفائدة، وهو ما قررته بالفعل في نهاية الاجتماع؟
من المعروف أن رئيسة البنك المركزي الأوروبي ECB European Central Bank كريستين لاغارد، التي سبق لها أن عملت مديرة عامة لصندوق النقد الدولي، صرحت يوم السادس من هذا الشهر بأن معدل التضخم المحسوب على أساس سنوي قد هبط في الاتحاد الأوروبي إلى 2%، وهو المعدل المستهدف من سياسة البنك النقدية، وبناء عليه، قرر البنك أن يقوم بتخفيض أسعار الفائدة بـ0.25 نقطة مئوية ليصل إلى 3.75%. وهذه هي المرة الأولى التي يقوم فيها البنك بعمل ذلك منذ خمس سنوات، علماً أنه بدأ سياسة رفع الفوائد على اليورو من شهر يوليو/ تموز عام 2022 حتى شهر سبتمبر/ أيلول عام 2023 وأبقاها عند 4% منذ ذلك التاريخ.
رفع سعر الفائدة يزيد كلف الإنتاج ويقلل الأسعار التي يجنيها المنتجون مقابل منتجاتهم
نشرت لاغارد الخبر على مدونة البلوغ Blog التابعة لها على منصة البنك المركزي الأوروبي في نفس اليوم الذي صدر فيه القرار. تتالت بعد ذلك التقارير التي نشرت على مختلف المواقع لتشرح أسباب اتخاذ هذا القرار المهم، فأوروبا ترى أن أسعار الفوائد وسيلة نقدية ناجعة لمكافحة التضخم، وما دامت أسعار السلع والخدمات ترتفع، فإن هذا يمثل عبئاً على كاهل المواطن، لكن الثمن المطلوب دفعه من أجل السيطرة على معدلات ارتفاع السعر هو رفع سعر الفائدة.
سعر الفائدة في المفهوم الاقتصادي الكلاسيكي والحديث هو الغرامة التي يتكبدها الدائن عندما يقترض نقوداً من البنك، وهو المردود الذي يجنيه المدخرون. وهذا قد ينطوي، كما تعلمنا من منحنى فيليبس Philips Curve، على احتمالية زيادة البطالة، لأن رفع سعر الفائدة يزيد كلف الإنتاج ويقلل الأسعار التي يجنيها المنتجون مقابل منتجاتهم، وعندما يصل معدل الارتفاع في السلع إلى الحد المرغوب وهو 2%، فإن السياسة النقدية تعود إلى تخفيض سعر الفائدة لزيادة الإنتاج ورفع نسبة التوظيف أو تقليل نسبة البطالة.
خفض البنك المركزي الأوروبي حتى الآن أسعار الفائدة كان له تأثير واضح على أسعار الذهب، فحسب دراسة نشرتها محطة التلفزيون الأميركية CBS، فإن سعر الذهب حقق قفزة كبيرة في شهر يونيو مقارنة بشهر مايو/ أيار من العام 2024. وقد ارتفع في بداية الشهر الحالي عما كان عليه في بداية الأسبوع الأخير من شهر مايو بنسبة تصل إلى ما يقارب 20%، ويتوقع كاتب التقرير جوشوا رودريغز Joshua Rodriguez أن يستمر الارتفاع في أسعار الذهب حتى نهاية الشهر الحالي، مستدركاً بأنه من الصعب في الوقت الحالي التنبؤ بخط أسعار الذهب خلال النصف الثاني من العام. ولكن توقعات رودريغز لم تتحقق، إذ انخفض سعر الذهب يوم الأحد الماضي انخفاضاً ملحوظاً.
انطبق الأمر نفسه على أسعار العملات المشفرة، بخاصة بيتكوين Bitcoin التي استعادت ألقها بقوة في شهر مارس/ آذار هذا العام، واستمرت في الارتفاع حتى وصلت إلى أسعار قياسية لم يسبق أن وصلت إليها من قبل. وفي تقرير مفصل ومهم نشرته صحيفة وول ستريت جورنال WSJ بقلم المحلل المالي أندرو شو Andrew Chow، فإن الحماسة قد ارتفعت لدى المضاربين على العملات المشفرة، ويقولون إنها سوف تستمر في الارتفاع، ولكن المحللين الأكثر ميلاً للتحفظ يرون أن هذا الحماس متذبذب، وأن احتمالية تراجع أسعارها لا تزال واردة.
يجب أن ندرك أن أحد أهم أسباب ارتفاع الأسعار والكلف في الولايات المتحدة يعود إلى ما يجري في سوق العمل
ولذلك، فإن لجنة السوق المفتوحة التابعة لبنك الاحتياط الفيدرالي، والتي اجتمعت يومي الثلاثاء والأربعاء السابقين، قد تجد نفسها أمام قرار معقد. فمن ناحية، سيكون من الصعب عليها خفض سعر الفائدة على الدولار، لأن معدل التضخم في أسواق السلع والخدمات داخل الولايات المتحدة سيكون أعلى، أو على الأقل هذا ما يقوله أنصار الحزب الجمهوري، الذين يرون أن إدارة الرئيس الديمقراطي والمرشح للرئاسة من الحزب قد فشلت في سياسة كبح التضخم، والدليل على ذلك أن المواطن الأميركي يواجه التضخم كل مرة يدخل مشترياً من محال البقالة وأسواق الغذاء، وفي كل مرة يقف أمام محطة البنزين ليملأ سيارته بالوقود، ولكن أسعار النفط الخام قد هبطت في الأسابيع الثلاثة الماضية، ما سينعكس إيجاباً على السعر الذي يدفعه المستهلك.
يجب أن ندرك أن أحد أهم أسباب ارتفاع الأسعار والكلف في الولايات المتحدة يعود إلى ما يجري في سوق العمل. فبعد جائحة كورونا، يلاحظ أن فائضاً في الطلب داخل الأسواق الأميركية قد نتج بعدما ضخت الخزينة الأميركية الكثير من الدولارات للعمال والموظفين والأسر ذات الدخل المتدني تعويضاً عن البطالة.
ولكن اللافت للنظر أن الجمهوريين يتهمون إدارة الرئيس جو بايدن الديمقراطية بأنها لا تطبق إجراءات مشددة لضبط تهريب الأجانب على حدودها مع المكسيك، خاصة في ولايتي كاليفورنيا (جنوب غرب) وتكساس (جنوب). وقد اضطر بايدن إلى أن يقوم بزيادة الإجراءات متانةً على الحدود لكي يجيب عن النقد الموجه إليه بأنه يضر بأجور العمال الأميركان بالسماح بإدخال الآلاف من العمال غير الشرعيين.
أما النقطة الثانية التي تؤزم مشكلة التضخم في أميركا هي أن رفع أسعار الفوائد بحد ذاته يضر كثيراً بالمواطن الأميركي، خاصة الشباب، فهم لا يجنون دخولاً مرتفعة، ما يضطرهم للاقتراض من أجل الشراء بواسطة بطاقات الائتمان Credit card، أو الاقتراض لتغطية تكاليف الدراسة الجامعية، أو عندما يتخرج، فهو يقترض لتمويل مسكنه الذي ارتفعت أسعاره جداً.
يقدر أن حجم الاقتراض الاستهلاكي في الولايات المتحدة قد وصل لأول مرة في تاريخه إلى خمسة تريليونات دولار، وأن حصة بطاقات الائتمان قد قاربت 1.5 تريليون دولار. أما قروض الإسكان Mortgage Loans فقد وصلت في الولايات المتحدة إلى 12.14 تريليوناً، أما الديون الدراسية على الطلبة فقد بلغت، حسب آخر إحصائية متاحة، 1.77 تريليون دولار، منها 92% مقدمة من الحكومة الفيدرالية.
وهكذا نرى الشباب الأميركيين مثقلون بالديون التي تصل قيمتها إلى أكثر من 15 تريليون دولار، والتي تبلغ حوالي مئة ألف دولار في المعدل للشاب الواحد، وهذا عبء ثقيل، ورفع أسعار الفوائد يزيد الطلبة هماً.
أعتقد أنه من المرجح، في عام انتخابي، أن الإدارة الأميركية ستمارس ضغوطاً على الفيدرالي لتخفيض الفائدة، أو على أقل تقديرٍ لإبقائها على حالها
تواجه الشعوب في الدول المتقدمة عموماً مشكلة خطيرة، وهي نقص المواليد والعزوف عن الزواج وارتفاع نسبة الطلاق وتأنيث المجتمعات Society Feminization، وهذا يجعل المكون الديمغرافي من الشباب أقل مما يجب، ويخلق ثغرات داخل سوق العمل، في الوقت الذي تزداد فيه أعداد كبار السن المحتاجين للرعاية الخاصة والعلاج.
في ظل الحقائق التي برز فيها التداخل بين الجانبين النقدي والحقيقي الاقتصادي في أوروبا والولايات المتحدة، اللذين يؤثران تأثيراً مباشراً على مجريات الأسواق العالمية، يبقى السؤال قائماً: عند قراءة هذا المقال، هل ستكون لجنة السوق المفتوحة في بنك الاحتياط الفيدرالي قد تبنت قراراً برفع أسعار الفوائد أم بتخفيضها؟
أعتقد أنه من المرجح، في عام انتخابي، أن الإدارة الأميركية ستمارس ضغوطاً على البنك الفيدرالي لتخفيض الفائدة، أو على أقل تقديرٍ لإبقائها على حالها من دون رفع أو تخفيض.
ومع أن البنك المركزي، وبموجب الميثاق الذي صدر بموجبه، مستقل في قراراته عن السلطة التنفيذية، إلا أن البنك هو الوكيل المالي للخزانة العامة للدولة، وهو بنك البنوك، والمستشار المالي والنقدي للحكومة، ولا يستطيع أن يتجاهل دورها في الاقتصاد أو تأثير سياساته عليها.
أستبعد رفع أسعار الفائدة الأميركية، وسوف أفاجأ إن خفّض البنك سعر الفائدة على غرار ما فعله البنك الأوروبي، وأرجح أن تبقى أسعار الفائدة الأميركية على حالها في الوقت الحاضر، وهو ما حدث بالفعل، حيث أعلن البنك مساء الاربعاء تثبيت سعر الفائدة الرئيسية لليلة واحدة دون تغيير في نطاق 5.25-5.50% وتوقع خفضا واحدا للسعر في العام الجاري 2024