من الأضطهاد حتى الإبادة ، مقاربات بين الماضي والحاضر

مارس 23, 2024 - 12:03
من الأضطهاد حتى الإبادة ، مقاربات بين الماضي والحاضر
بالواقع يبدو أن الإنسانية قد نسيت لفترة من الزمن الفاشية والمحرقة، وكذلك جريمة النكبة الاولى، ولهذا السبب تسمح لما تُسمي نفسها "الدولة اليهودية" بأن تكرر اليوم ضد شعبنا الفلسطيني جرائم النكبة الاولى، بنكبة جديدة أكثر توحشا، رغم تواصلها منذ ٧٦ عاما دون توقف ، وكذلك أساليب الفاشية والمحرقة التي كان الأوروبيون ومن ضمنهم اليهود هناك أنفسهم ضحيتها قبل حوالي ثمانين عاما.

لكن وامام اتساع التضامن مع كفاح شعبنا الذي لم نشهد مثيلا سابقا له، ورقعة الغضب الشعبي العالمي بعديد من الدول بحق الجرائم المستمرة لدولة الأحتلال منذ ما قبل ٧ أكتوبر ، ومقاضاتها دوليا من أصدقاء أممين ، بدأت تبرز ظواهر تدني التأييد لإسرائيل وسياساتها وتكشف حقيقة الفكر الصهيوني العنصري وتصاعد الدعوة لأشكال مقاطعتها ، وهو أمر يجب استغلاله والبناء عليه من جانبنا قبل فوات الأوان، مع اتساع رقعة اليمين الشعبوي بالعالم، من جهة خاصة مع توقع فوز ترامب بانتخابات الرئاسة، الذي لن يضطر لتوازنات في حزبه الجمهوري بالعلاقة مع نتنياهو واسرائيل ، ومن جهة اخرى احتمال بقاء نتنياهو على رأس الحكم اذا تمكن من الحفاظ على ائتلاف حكومته بمزيد من الجرائم بما فيها في رفح .

ان أولئك الذين يساعدون ويتعاونون اليوم بشكل مباشر او غير مباشر في تنفيذ واحدة من ابشع الجرائم ضد الإنسانية بالعصر الحديث وأبشع الفظائع التي شهدتها البشرية منذ عقود، إما تواطئاً أو تعاوناً عملياً او بشكل سلبي أو بالتظاهر بعدم الرؤية ، أو عدم السمع أو الفهم لما يدور ، أو التجاهل أو التقليل من أهمية وإخفاء الأخبار حول التطهير العرقي والإبادة الجماعية المستمرة أو دعمها وتبريرها بشكل نشط من خلال ادعاء "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس"، يتحملون هم المسؤولية عن الجريمة ذاتها تماماً ، خاصة الولايات المتحدة الامريكية التي رغم تباين الأراء بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو اليوم، وبعض التصريحات اللفظية الموجهة الى المجتمع الأمريكي، اساساً بهدف توازنات الحفاظ على وحدة حزبه الديمقراطي لأغراض انتخابية رغم صهيونيته، فانها قد قدمت حمولة نحو ٣٠٠ طائرة و ٥٠ سفينة تحتوي ٣٥ ألف طن من الذخائر الأمريكية وصلت لإسرائيل منذ بدء عدوان الإبادة .

وهؤلاء الذين يرغبون في تمرير مشاريع اوسع للشرق الاوسط، غالبا ما يكونوا أحفاداً سياسين وأيديولوجين على الأقل ، إن لم يكن وراثيا لأولئك الذين قاموا بالفعل بجرائم بحق الأوروبين، ومن ضمنهم بعض اليهود في مجتمعاتهم أثناء الحكم والاحتلال النازي لدول أوروبية، ليُمارس بحقهم الفظائع، ويفتح افاق الهجرة الأستيطانية الى فلسطين لاحقا لمن تبقى من هؤلاء اليهود بدعم الغرب الاستعماري .

إن الجذور التاريخية لحزب الليكود الإسرائيلي الحاكم الآن بزعامة نتنياهو، ليست سوى جذور تيار "الصهيونية الشمولية"، المستوحى من الفاشية كفكر شمولي، نفسه الذي ولد في فترة ما بين الحربين العالميتين .

هذا التيار ترسخ وعمل من أجل ما يسمى "حق اليهود في وطن قومي" واستغلال اليهودية كعقيدة دينية لأغراض الاستعمار الاستيطاني السياسي ، مما هدف الى انشاء هذا الكيان القائم على حساب أرضنا وحقوقنا ووجودنا دون اغفال لدور التيارات الأخرى بالحركة الصهيونية، التي ساهمت جميعها في ذلك، ومن ثم الوصول الى ما يجري الآن دون انتظار مبررات من أجل استكمال رؤيتهم في أرض فلسطين التاريخية .

ففي عام ١٩٤٨ أشار العشرات من اليهود البارزين ، وفي مقدمتهم العالم ألبرت أينشتاين إلى تشابه هذا التيار الشمولي الصهيوني مع النازية ، واستذكروا ممارساته الإرهابية الإجرامية ضد الفلسطينين والبريطانيين، وحتى بعض اليهود أنفسهم الذين اختلفوا مع هذا التيار انذاك. كما تم لاحقاً اتهام هذا التيار ونتنياهو شخصيا بالإضافة إلى عصابة الحكم القائم الآن بالمسؤولية عن اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إسحاق رابين ، الذي وصفه أحد الصحفيين الإسرائيليين بالعمل الذي شكل انتصارا لروح الشمولية الصهيونية المتنفذة الآن، التي لا تريد لأي عملية تسوية سياسية النجاح بالمطلق لان ذلك يتعارض مع مشروعهم الصهيوني المتدحرج حتى الآن .

واليوم ، يتم التأكد من تحذيرات هؤلاء اليهود المعارضين للسياسات الصهيونية التي أطلقت في ذلك الوقت ، وهو الأمر الذي يتكرر اليوم لكن بصور أوسع واشمل على المستويات الشعبية بالعالم، ويساهم في أحداث عدد من المتغيرات الدولية . ومثال على ذلك، ما يجري بالولايات المتحدة اليوم وخاصة باوساط الحزب الديمقراطي وامكانية ظهور مرشح رئاسي ثالث هناك، بعد امتناع إعداد كبيرة منهم من تأييد بايدن كمرشح رئاسي عن الحزب.

ويقول الصحفي الأمريكي توماس فريدمان "انها لحظة خطر عظيم ، "عندما يتعلق الأمر بتقليص الدعم لإسرائيل من الولايات المتحدة والبقية في العالم". ويضيف فريدمان "إما أن تخرج إسرائيل من هذا الأمر بعلاقة جديدة مع الفلسطينيين في عام ٢٠٢٤ أو أن نعود إلى عامي ١٩٤٧ و ١٩٤٨ لكن بأسلحة جديدة".

في إسرائيل يحكم الآن تحالف من اليمين المتطرف العلماني، مع اليمين الأصولي الديني المتطرف، ويذهب بعض المعلقين إلى حد وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه بأنه "الأب الروحي للفاشية الإسرائيلية الحديثة" .

وينفذ هذا التحالف الحاكم الآن رؤية "الحل النهائي" الخاص به في فلسطين، الذي تم التعبير عنها مرارا ، وهو نفس التحالف الذي يسعى إلى تعميم الحرب في جميع أنحاء الشرق الأوسط، متبعاً أفكار مؤسسي الجغرافيا السياسية الألمانية النازية القائمة على "التفوق العرقي" و "عدم المساواة" التي ألهمت هتلر في ذلك الوقت .

وقبل عقد من الزمن كان الفرق بينهم وبين النازيين والفاشيبن الأوائل، هو أنهم لا يسعون الى الإبادة الجماعية لشعبنا الفلسطيني كما اراد ان يفعل النازيون، بل كانوا يسعون "فقط" إلى حرماننا من "حقوق الإنسان الأساسية" وتنفيذ سياسات الاضطهاد والقمع البشع، لإخضاعنا وكي وعينا بهويتنا الوطنية وحقنا بتقرير المصير، من خلال اساليب مختلفة ترسخت تحديدا في زمن حزب العمل الإسرائيلي، الذي اخفق بتحقيق ذلك رغم محاولات مختلفة، ومنها خلق البدائل من الدمى والمتعاونين ، التي يحاول نتنياهو اليوم تكرارها في غزة .

أما الآن فينتقل حكام إسرائيل تدريجياً من مرحلة حرماننا من الحقوق وممارسة الاضطهاد والقمع، إلى مرحلة الابادة والتهجير القصري لشعبنا الفلسطيني والتجويع ، أي من النازية "المبكرة" إلى النازية "الناضجة" ، وهي سياسة تستهدف كل شعبنا بما يشمل حركات المقاومة والسلطة الوطنية، المستهدفة أيضا في جعلها سلطة دون سلطة حقيقية وسيادة على الأرض .

هم لم ينتظروا هجوم المقاومة في ٧ أكتوبر الماضي للقيام بذلك، لقد بدأوا قبل ذلك بكثير، منذ جرائم ما قبل النكبة الاولى، ولاحقا في الضفة الغربية بما فيها القدس ومقدساتها، عندما دعا وزيرهم بن جفير، الذي وصفه خصومه السياسيون في إسرائيل بالسادي ، مراراً وتكراراً إلى إبادة الآلاف من الفلسطينيين، وتم ذلك بأشكال أقل حدة في محرقة حوارة وغيرها من القرى، ولاحقا التوحش في عدد من مخيماتنا بالقتل والتدمير والترحيل، كما في مسافر يطا والاغوار والقدس لخلق واقع ديمغرافي يخدم رؤيتهم بالفوقية اليهودية ، وما هو حاصل من تنكيل بحق اسرانا الأبطال، والتي كان آخرها بحق القائد مروان البرغوثي الذي يحاولون أغتياله في زنازين عزله .

وقبل ذلك تم توحيد القدس كعاصمة لهم بمباركة أمريكية حتى الآن، وتوسيع الاستيطان ليشمل ٦٠% من ما يفترض ان تكون اراضي الدولة الفلسطينية، وضم مناطق منها وترحيل سكان مناطق اخرى واتباع سياسات وانظمة الابرتهايد ، وتم إقرار قانون يهودية الدولة واخضاع شعبنا هناك لسياسات عنصرية تعتمد التميز العنصري. وقبل عام ابرز نتنياهو خارطته في الأمم المتحدة وامام كل العالم ، التي استبدل فيها كل فلسطين "باسرائيل الكبرى " . فنتنياهو لم يكن بحاجة لسبب ما او لذريعة، كان ينفذ رؤيته ومقولة "شعب بلا أرض جاء لأرض بلا شعب" والى إقامة مملكة إسرائيل الكبرى التي ضم إلى خارطتها بن جفير وسموتريتش أراضي من دول أخرى.

هؤلاء "لم يتعلموا شيئاً ولم ينسوا شيئا" من التاريخ اليهودي ، دون أن يدركوا أنهم بذلك يعمقون ازمتهم ويضعون أسس سقوطهم .

أما بالنسبة للكثير من الحكومات الأوروبية ، فقد اصيبت بنفاقها بفقدان الذاكرة، وإلى أين قادت الأفكار الشمولية النازية قبل قرن من الزمن وما حدث لشعوبها ، وإلى أين يمكن أن يقود ظهورها بشكل جديد اليوم على شاكلة ما هو قائم بدولة الاستعمار الاسرائيلي .

إذا كانت الأساليب التي تستخدمها إسرائيل اليوم ستؤدي إلى تهجير قصري أو "طوعي" لشعبنا بما يترافق مع جرائم الابادة الجماعية الجارية، وفق مخططات يجري الاعداد لها منذ زمن، ومن ضمنها الميناء العائم، فإن العواقب لن تكون مقتصرة على الشرق الأوسط فحسب ، بل في مناطق مختلفة من العالم، ان لم يكن بأكمله، والذي اصبح يتأثر يوميا بما يجري في فلسطين وتحديدا في غزة ، لأن مثل هذا "النصر" لفكرهم الشمولي سيسهم في هدم الأيديولوجية الديمقراطية والإنسانية التي تبنتها البشرية، وبجزء منها الغربية، حتى ولو بشكل لفظي على الأقل بعد الانتصار على النازية عام ١٩٤٥ وتأسيس هيئة الأمم المتحدة، وما تبعها من قوانين دولية ومواثيق ومعاهدات لم يتم تنفيذ اي منها بخصوص قضيتنا الوطنية وأولها القرار ١٨١ .

إن انتصار مثل هذه الأساليب في فلسطين سيشكل مساهمة هائلة في تطور الفاشية الدينية من جديد باوربا، وفي تصعيد الحروب من جانب الغرب كله، الذي يرفض اليوم مبادرات روسية لوقف الحرب القائمة بالوكالة في اوكرانيا . تماما كما مهد انتصار الديكتاتور فرانكو في إسبانيا عام ١٩٣٩ الطريق للحرب العالمية الثانية وتمادي الفاشية حينها .

من الواضح اليوم ان هناك وحدة عضوية بين سياسات الغرب والناتو العدوانية في أوكرانيا بحق روسيا، وسياسة حكومة الاحتلال الإسرائيلي الفاشية في غزة وبحق كل شعبنا في كل فلسطين، والحرب الأمريكية التجارية ضد الصين وتهديدها فيما يتعلق بمسألة تايوان، وبروز قوى النازية الجديدة باوروبا، وجميعها تمثل الجهد العام الذي يبذله "الغرب الجماعي" للحفاظ على هيمنته العالمية وإعاقة التحول بالنظام الدولي .

وليس من قبيل الصدفة البسيطة أنه في مستوى التطبيق السياسي ، فإن المتشددين فيما يتعلق بأوكرانيا هم نفس المتشددين فيما يتعلق بغزة ، امثال الأوروبية فان دير لاين والامريكيين فيكتوريا نولاند وأنتوني بلينكن وجيك سوليفان، الذين لا يمكن إلا أن تنبع قوتهم من اختيارات قوى مهمة داخل مركز القوة الحقيقي في الغرب المتمثل في "إمبراطورية المال" والدعم اليهودي الصهيوني لها ، وهي نفسها التي تملي سياساتها على موظف مجموعة روتشيلد السابق، ماكرون رئيس فرنسا، وغيره من المسوؤلين الأوروبيين ايضا في دول أخرى مثل ألمانيا واليونان وغيرها . ومهما تطورت الاحداث في هذه الجبهات الثلاث سيكون لها تداعيات كبيرة على الجبهات الأخرى الأوروبية التي تعاني دولها من تفاقم أزماتها المختلفة، وستبرز صراعات جديدة تهدد الأمن والسلم الدوليين، وفق نشر نظريات الفوضى الخلاقة وتحقيق الديمقراطية بالحروب التي تحركها مجمعات الصناعة العسكرية وعقلية التطرف الأمريكي.

والمفارقة اليوم ان اليمين المتطرف الشعبوي الأوروبي، ومنهم النازيون الجدد، وخاصة الذين يحظون بمساندة ودعم الحركة المسيحية الصهيونية بالولايات المتحدة، يتخذون موقفا مؤيدا للحركة الصهيونية وحكام اسرائيل، وتأكيد الدعم المطلق لدولة الاحتلال الإسرائيلي في عدوانها بحرب الابادة الجارية ضد شعبنا، بعد ان كانت هذه التيارات معادية لليهودية في بدايات القرن السابق، وهذا أمر سيتسع دوليا اذا ما عاد اليميني الشعبوي ترامب إلى البيت الأبيض، ليترسخ بذلك أكثر فأكثر تحالف بروكسل تل أبيب واشنطن، في محاولاتهم لإعادة عقارب الساعة إلى ما قبل هزيمة النازية بالحرب العالمية الثانية التي كان للجيش الأحمر وحركات المقاومة الوطنية وتضحياتهم النصيب الأكبر في تحقيقها .

لقد تعرت بشكل جلي الصهيونية وكيانها في ما يجري بمخيمات الضفة وفي غزة بعد ٧ أكتوبر كحركة عنصرية نازية فيما ترتكبه من ابادة جماعية وتطهير عرقي وتجويع بحق شعبنا، وأصبحت بسبب ذلك تخسر معركة الرأي العام، وتحتضر على المسرح الدولي وفي ذاكرة الشعوب ، مما يؤهل بالنتيجة اذا أحسنا الاستفادة من المتغيرات والبناء عليها وإدارة معركتنا وتعميق ازماتها أن يقارب مصيرها بما جرى من هزيمة للنازية والفاشية.