التمثال الأصم..!
أ. د. أفنان نظير دروزة
أ. د. أفنان نظير دروزة
رأيتها بعد طول غياب، فأقبلت عليّ بخطى متسارعة لتزف لي خبرا تخبئه في نفسها، فسألتها باندهاش: ما الخبر؟! قالت: لقد ابتعت قبل أسبوع تمثالاً أصمَّ أبكمَ أعمى. قلت: وكيف يكون ذلك؟ صفي لي شكله!
قالت: تمثال إنسان أسود، ترتفع خصلة شعر من وسط رأسه إلى الأعلى، جالساً القرفصاء، واضعاً يديه على أذنيه، مغلق الفم، مغمض العينين. قلت: وماذا أوحى لك هذا التمثال حتى أعجبك ودفعك إلى شرائه؟! قالت: لقد أوحى لي أننا نعيش في زمن يعجّ بالمشاكل والصعاب، زمن اختلط فيه الحابل بالنابل، فلم يعد فيه الإنسان يميّز بين الخير والشر، والصالح والطالح، والصديق والمنافق، والأمين والخائن؛ وهذا يملي علينا أن نتصرف وكأننا لم نرى، أو نسمع، أو نتكلم؛ حتى نستطيع أن نعيش هذا الزمن الشائه بهدوء وسلام، إذ إن أغلب المشاكل التي نعاني منها لا تأتي إلا من الناس الذين وثقت بهم، وأفضيت لهم ما في داخلك بحسن نيّة، وأثنيت عليهم وضحيت من أجلهم.
قلت: وهل تستطيعين أن تطبقي هذه القاعدة في حياتك وتعيشين كأنك لا ترين، ولا تسمعين، ولا تتكلمين؟! قالت: نعم، ولهذا السبب أعجبني التمثال وابتعته، ووضعته على طاولة الوسط في غرفة الجلوس أمامي أتأمله، لأذكّر نفسي بما يوحيه لي من مواعظ وعبر.
قلت: أنا أخالفك الرأي، ولو قيّض لي أن أصنع تمثالاً لصنعته بشكل مختلف عن هذا التمثال الذي تصفين! قالت: وكيف يكون هذا التمثال من وجهة نظرك؟ قلت: إنسان يضع يداً واحدة على أذنه ويطلق الأخرى، ويغمض عيناً ويفتح الأخرى، ويفتح شفتيْه نصف فتحة، ليتكلم في الوقت المناسب فقط! قالت: وماذا يعني هذا؟ قلت يعني أن أعزف عن سماع ما لا يعجبني وأصغي لما يعجبني، وأرى المحاسن في عين وأغمض عن المساوئ في العين الأخرى، وأتفوه بما ينفع وأصمت عمّا لا ينفع، واستطردت قائلة، وما تفكيري بهذه الطريقة إلا لأن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بمعزل عن الآخرين، ولا يستطيع أن يضع نفسه في زاوية لا يتفاعل مع ما يدور حوله، وإلاّ لأصبح في عداد الميتين؛ ولكن كل الذي يستطيع عمله حتى يقي نفسه، هو أن يكون نصف مبصر، ونصف متكلم، ونصف مصغ، وبهذا يعيش حياته بلا ضرر ولا ضرار!
نظرت إليّ فتاتي وهي تبحلق في عينيّ قائلة: لقد أعجبتني طريقة تفكيرك والتمثال الذي بفكرك؛ فعلاً، إن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بمعزل عن الآخرين ويكون كالتمثال الأصم الأبكم الأعمى، لأن الله سبحانه وتعالى عندما خلق الإنسان، خلقه للحركة لا للجمود، وللعمل لا للقعود، وللسعي بما يفيد لا للركود، وهذا لا يكون إلا بالتفاعل مع الآخرين ومحبتهم، والتواصل والسعي والحركة وعمل الخير وإعانتهم. أما أن يعزل نفسه كلية ويدير ظهره للناس والحياة، فهذا هو العبث بعينه إن لم يكن الموت السريري، وأظن أنه لا يريد أحد أن يصل إلى هذه الحالة السلبية مهما كانت ظروفه وأحواله، لأنه بهذا يكون قد حكم على نفسه بالإعدام دون أن يدري، مع العلم أنه لو فكر قليلاً، وآمن بالآية التي تقول "إن مع العسر يسرا"، لما وصل إلى هذه الحالة من التشاؤم والإحباط اللذين يؤديان به إلى الانزواء وعدم الاختلاط.
وإذا ما أردنا أن نعيش هذه الحياة التي هي ملك لله سبحانه وتعالى قبل أن تكون ملكاً لنا، علينا أن نظل مؤمنين، نعمل الخير ونؤمن أن كل شيء يتغير ولا يبقى على حال، وبأن الله سبحانه وتعالى لا يضيّع أجر المحسنين. فالمهم في الأمر أن نظل أعضاء صالحين في المجتمع بنائين، لا أن نكون معول هدم مناعين للخير متشائمين.
———
إن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بمعزل عن الآخرين ويكون كالتمثال الأصم الأبكم الأعمى، لأن الله سبحانه وتعالى عندما خلق الإنسان، خلقه للحركة لا للجمود، وللعمل لا للقعود، وللسعي بما يفيد لا للركود.



