عام الحزن والألم والأمل

يناير 2, 2024 - 10:20
عام الحزن والألم والأمل
لم يكن القلم يوماً معانداً، ولا المداد عصياً على بياض الورق مثلما هو اليوم، إذ بدا بين أصابعي مثل "خيل حرون" كلما حاول البوح كبا، أو بكى على وقع ما يجري من جرائم لم تعد اللغة قادرةً على وصفها، ولا الإحاطة بتفاصيلها المرعبة، وجروحها الموجعة في متوالية الدم النازف كل يومٍ وساعةٍ ودقيقةٍ من دون انقطاع، وندوبها المحفورة في أعماق الروح بتباريح الألم، والوجع المقيم من فداحة الإبادة المتوالية بلا هوادة وفظاعتها، بعد أن قطعت كل أسباب الحياة عن أبناء شعبنا، أطفالاً ونساءً وشيباً وشباناً، فيما لا يزال شبح التهجير يلاحق اللائذين إلى مراكز اللجوء التي طالتها ألسنة اللهب بالنار والفسفور الأبيض، تقتل وتحرق وتسيل دماء الأطفال وتفرم لحمهم وهم نيامٌ على أسرتهم وبين أحضان أمهاتهم، وتطاردهم حيثما حلوا، وأينما رحلوا وسكنوا، "فلا أبرياء في غزة التي تسكنها حيوانات بشرية"، كما أعلن الفاشيون المجرمون القتلة وهم ينصبون أعواد المحرقة لضحاياهم، ويرفعون عنهم صفة الإنسانية ، ليرتكبوا جرائمهم برخصةٍ من الولايات المتحدة الأمريكية، وبدعمٍ وإسنادٍ من الدول السائرة في ركبها.

ما أصاب أهلنا في قطاع غزة لم يصب شعباً أو أمةً منذ الحرب العالمية الثانية، ذلك أن ما أُلقي من حمم اللهب على رؤوس الأطفال والنساء والشيوخ في بيوت الطوب والصفيح يفوق ما أُلقي على مدينتي هيروشيما وناجازاكي خلال الحرب العالمية الثانية، وما أُسقط من قنابل على المدن الألمانية خلال أربع سنوات من تلك الحرب الكونية.

فلو قُدر أن يوضع زلزال الإبادة المتدحرج الذي يضرب غزة على مقياس ريختر لسجل الرقم (10)، الذي لم يسجله المقياس العالمي حتى الآن في تاريخ الزلازل الكونية.

أمام هذا الدمار الكبير الذي لم يسلم منه بيتٌ ولا مدرسةٌ ولا جامعةٌ ولا مسجدٌ ولا كنيسةٌ ولا مستشفى ولا مخبز ولا حتى خيمةٌ تؤوي الهاربين من جحيم المحرقة، فإنه لا أحد غير فاقدي العقل والضمير المتجردين من المشاعر الإنسانية يمكنه أن يصمت على تلك الفصول المروعة من الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتهجير القسري لمليونين وأربعمئة ألف مواطن، يكابدون ألماً نازفاً، ويتضورون جوعاً وعطشاً، ويعانون مرضاً وفقراً مدقعاً، وسط بيئةٍ لم تعد قابلةً للعيش بعد أن قطع المجرمون القتلة الفاشيون عنها كل أسباب الحياة؛ من ماءٍ وكهرباءٍ ووقودٍ وغذاءٍ ودواء، وجعلوها أرضاً يباباً بلقعاً لا حياة فيها.

الصمت والعجز الدوليان عن وقف الإبادة في غزة هما الشريك الحصري لتلك الجريمة المتوالية فصولاً دموية، مثلما هما المغذيان الرسميان لنوازع القتل والانتقام وأحلام التوسع والغطرسة التي تتلبس قادة المؤسستين السياسية والعسكرية في إسرائيل، الذين يعتنقون عقيدة القتل والحرق والمحو لحسم الصراع بالحديد والنار والفولاذ.

يغادرنا عام الحزن الدامي بينما لم ينقطع منه خيط الدم النازف في كل بيتٍ وحارةٍ وشارعٍ في قطاع غزة الممدد منذ 88 يوماً تحت جنازير الدبابات وأنياب الطائرات المتوحشة التي تنهش الأجساد الغضة من الأطفال في غزة، وتقتل النساء والشيوخ، فيما يرتكب جيش الإبادة إعداماتٍ جماعيةً بحق الرجال والأطفال أمام ذويهم في البيوت المقتحمة، ويمارس شتى صنوف القهر والتعذيب والتجويع بحق المعتقلين في مراكز الاعتقال المرعبة.

هل كنا بحاجةٍ لكل هذه الآلاف المؤلفة من الشهداء والجرحى والمفقودين والمعذبين والمكلومين كي يعرف العالم حجم التوحش والعنصرية ونزعة القتل التي تصوغ فكر هؤلاء المجرمين القتلة وسلوكهم؟!

هل كان العالم بحاجةٍ إلى كل هذا السيل الجارف من الدماء الذي من شأنه أن يغير لون المتوسط، وكل هذه الأعداد الكبيرة من الأكفان البيضاء، حتى يكتشف حقيقة القتلة، ويرى كل هذا المخزون من الحقد والكراهية الذي يكتنزه المجرمون في قلوبهم إزاء ضحاياهم، ليقرّ العالم بحقهم في دولةٍ مستقلةٍ شأنهم شأن شعوب العالم الحر، ذلك أن دماء الفلسطينيين نزفت منذ عام 48 بمجازر لم تكن زمن البث الحي الذي ينقلها اليوم على الهواء مباشرة وبالألوان يرتكبها أحفاد العصابات الصهيونية التي ارتكبت المجازر بحق أجداد الضحايا الذين لجأوا إلى بيوت الصفيح في قطاع غزة والضفة الغربية التي يتواصل فيها نقيع الدم دون انقطاع منذ ذلك اليوم وحتى وقعت الطامة الكبرى في غزة الشهيدة المصلوبة على أعواد المحرقة، التي كتب أطفالها أسماءهم على أجسادهم ليسهلوا على آبائهم وأمهاتهم التعرف عليهم تحت الركام، في مشهدٍ قال عنه رئيس برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة إنه لم يرَ في حياته شيئاً يشبه ما يحدث في قطاع غزة.

في المشهد الدامي المتوالي فصولاً، لا أحد إلا الله يعلم مآلاته، ينتصب كادر الصورة على شاشات الفضائيات الغارقة بدماء الغزيين؛ معتماً إلا من رشقات القنابل الموجهة والقصف العشوائي من مرابض الدبابات التي يتم تلقيمها بالحمم القاتلة، والتماع لهب الصواريخ الذكية والغبية بكل أنواعها وأوزانها وأحدث صناعاتها التي وصلت للتو وعلى جناح السرعة بالجسر الجوي الأمريكي قبل أن تُلقى على رؤوس الأطفال بآلاف الأطنان من القنابل، لتبدأ بعدها طريق الآلام لمن كُتبت لهم الحياة من الآباء والأمهات للبحث عن ثمرات قلوبهم بأظافرهم، وينقذوا الأجساد المرتجفة بوجوههم المغبرة من تحت الركام والدخان، وتواصل أُمٌّ ملتاعةٌ السؤال عمن رأى يوسف، ولد أبيضاني حلو وشعره كيرلي!
وفي المشهد الدامي يتم اغتيال شهود الإثبات من الصحافيين ومراسلي الفضائيات، الذين يعاقَبون بالقتل والإبادة مع عائلاتهم لانحيازهم إلى معاناة شعبهم، وكشفهم فظائع المجرمين وتوحشهم، وكثيراً ما فوجئ المراسلون بمقتل آبائهم وأمهاتهم وإبادة عائلاتهم، عقاباً لهم على قيامهم بأداء واجبهم تجاه أبناء شعبهم الذين يُقتلون بعشرات المجازر اليومية التي يذهب ضحيتها المئات من الأطفال والنساء، ولم تثنهم كل تلك الجرائم عن مواصلة عملهم وأداء رسالتهم، وكشف الجرائم التي يريد مرتكبوها ممارستها في العتمة.

وفي المشهد الدامي أيضاً يُقتل الأطباء والممرضون والمسعفون، ويتم اعتقال العشرات منهم وتعريتهم وتعذيبهم وتجويعهم وتعطيشهم، وإخراج المرضى والجرحى من المستشفيات التي غدت مقابر لهم، وحلت عربات "الكارو" محل سيارات الإسعاف لنقل المصابين والجثامين والنازحين.

في المشهد الدامي تغرق غزة بدمائها، تمشي نازفة الجرح تحمل أوجاعها، وتداوي جراحها دون بنج، وتواري تحت الثرى بصمتٍ جليلٍ أطفالها.
في غزة؛ بين الشهيد والشهيد شهيد، وبين النحيب والنحيب نحيب على الآباء والأمهات والأبناء والبنات والأعمام والعمات والأخوال والخالات والأجداد والجدات، الذين قضوا في غرفةٍ واحدةٍ بنار الإبادة.
في غزة؛ نازحون يشيعون نازحين، وجرحى يسعفون مصابين، وناجون من تحت الأنقاض يغيثون منكوبين، إنها القيامة تقوم في الشوارع والحارات والأزقة الضيقة.
في غزة؛ تضيق المقابر بالجثامين، والمشافي بالمصابين، والشوارع بالنازحين، حتى باتت غزة كلها بيت عزاء كبير.

في غزة النازفة الراعفة المجوعة المصلوبة على أعواد المحرقة سيكتب التاريخ يوما بالدم والدموع فظاعة جريمةٍ يرتكبها من يستلهمون فنون الإبادة الجماعية، وسط صمتٍ عالميٍّ رسمي مشين لا يقدر على وقفها أو تقديم كسرة خبر أو شربة ماء أو حبة دواء تنقذ المحاصرين بنارها.

على رغم شلالات الدماء، وسخم الليل، وأعمدة النار والدخان والفولاذ التي تسد الأفق، فإننا نؤمن بحتمية انتصار الدم على السيف، والوطن على الاحتلال، والحقائق الثابتة على كل عناصر الغطرسة، فالفلسطيني وإن كبا في لحظة غيبوبةٍ لدعاة القيم الإنسانية، وتغوُّلٍ وتطاولٍ على القرارات والشرائع الأممية، فإنه ينهض مثل فينيقٍ من تحت الرماد، يرفع صوت الأذان، ويضيء شجرة الميلاد في نهاية طريق الآلام؛ فالفجر يعقب الليالي الحالكة.