قرار مجلس الأمن: احتلال غزة يتجدد بقرار دولي!

نبهان خريشة

نوفمبر 20, 2025 - 09:47
قرار مجلس الأمن: احتلال غزة يتجدد بقرار دولي!

على ضوء مشروع القرار الأمريكي الذي أقره مجلس الأمن ، يعود النقاش القانوني حول الوضع في قطاع غزة إلى الواجهة، ليس بوصفه نقاشاً نظرياً أو فقهياً، بل باعتباره محاولة جديدة لإعادة صياغة الواقع السياسي تحت غطاء دولي دون المساس بالحقائق الجوهرية التي يقرها القانون الدولي. فالمسألة ليست ما إذا كان بالإمكان إيجاد ترتيبات أمنية جديدة، أو تشكيل ما يسمى بـ“مجلس سلام” لإدارة المرحلة المقبلة، بل إن السؤال الحقيقي الذي يفرض نفسه هو: هل يمكن لهذه الترتيبات أن تغيّر من الوضع القانوني لغزة كأرض محتلة؟ الإجابة الواضحة التي يقدمها القانون الدولي، ويعيد تأكيدها مشروع القرار ذاته بطريقة غير مباشرة، هي أن غزة ستبقى أرضاً محتلة طالما بقيت إسرائيل تسيطر فعلياً على الحدود والمجال الجوي والمياه الإقليمية والحركة والمعابر والسجل السكاني وسائر مقومات السيادة الفعلية. وهذا لا يتعلق بتسميات سياسية أو ترتيبات إدارية، بل بواقع القوة المهيمنة التي تُمارس على الأرض.

فمنذ العام 1967، حدّد القانون الدولي معايير واضحة لمعنى الاحتلال: سيطرة فعلية من قبل قوة معادية على أرض ليست جزءاً من سيادتها. وهذه المعايير لم تتغير في غزة، على الرغم من الانسحاب العسكري الإسرائيلي في العام 2005. فإسرائيل تحتفظ بالسيطرة على المجال الجوي، وتمنع استخدام المطار والميناء، وتتحكم بالحركة على الحدود البرية، وتتحكم كذلك بالسجل السكاني وبحق الفلسطينيين في الدخول والخروج، وتفرض حصاراً بحرياً فعلياً. ومع كل ذلك، يستحيل القول إن وضع غزة يمكن أن يُعد قد خرج من نطاق الاحتلال طالما بقيت عناصر السيطرة هذه قائمة. وعليه، لن تُغيّر أي ترتيبات جديدة، سواء جاءت بغطاء مجلس الأمن أو تحت مسمى “مجلس سلام”، من واقع أن الاحتلال لا ينتهي إلا بانسحاب كامل وغير مشروط للقوة القائمة بالاحتلال.

إن قرار مجلس الأمن لا يتضمن إنهاء الاحتلال، بل إعادة ترتيبه وتنسيقه وإعادة تغليفه بصورة تبدو دولية، من خلال إشراك أطراف متعددة في إدارة حياة المدنيين الفلسطينيين تحت رقابة إسرائيلية مباشرة أو غير مباشرة. إلا أن مجلس الأمن، مهما كانت صلاحياته واسعة في حفظ السلم والأمن الدوليين، لا يملك الصلاحية القانونية لنقل السيادة، ولا لإنهاء الاحتلال دون تحقق شروطه القانونية، ولا يستطيع بأي حال من الأحوال إلغاء أو تحييد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. فهذا الحق ليس منحة سياسية، ولا يخضع لمساومات دبلوماسية، بل هو حق قطعي في القانون الدولي العرفي، وفي قرارات الأمم المتحدة، وفي العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. ولا يمكن لمجلس الأمن، وفقاً لميثاق الأمم المتحدة نفسه، أن يتخذ قراراً يصادر هذا الحق، إذ لا توجد سلطة في النظام الدولي تتجاوز إرادة شعب محتل في تقرير مصيره.

أما فكرة “مجلس السلام” التي يتضمنها القرار فتثير أسئلة جوهرية حول طبيعتها ووظيفتها وموقعها القانوني. فالقرار لا يقدم هيئة مدنية مستقلة أو إدارة انتقالية نابعة من إرادة الفلسطينيين، بل هيئة هجينة ذات طابع دولي – أمريكي، تعمل إلى جانب قوات الاحتلال الإسرائيلي وقوات أجنبية أخرى، وتملك صلاحيات أمنية وإدارية واسعة. وإذ يجري تقديم هذه الفكرة على أنها خطوة نحو الاستقرار، إلا أنها في جوهرها تعيد إنتاج الاحتلال في صورة جديدة، مع إضافة غطاء دولي يجعله أقل كلفة سياسياً لإسرائيل وأكثر قبولاً في الخطاب الغربي. ومع ذلك، فإن الطبيعة الجوهرية لأي إدارة مفروضة من الخارج على شعب محتل تجعلها امتداداً للاحتلال، وليس بديلاً عنه. فالاحتلال هو احتلال، حتى وإن حمل لافتة “سلام” أو زُيّن بالحديث عن إعادة الإعمار وتنسيق المساعدات.

المعضلة القانونية والسياسية في هذا الطرح تكمن في أنه لا يعترف بأن أي ترتيبات انتقالية يجب أن تكون نابعة من موافقة حرة للشعب الفلسطيني نفسه، وفق ما تنص عليه اتفاقيات جنيف والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. فالقانون الدولي الإنساني لا يسمح بفرض وصاية أو إدارة انتقالية على شعب خاضع للاحتلال دون موافقته، سواء كانت هذه الوصاية تحت سلطة دولة منفردة أو إدارة متعددة الجنسيات أو حتى هيئة تابعة للأمم المتحدة. ولأن مشروع القرار لا يقدم أي آلية للحصول على موافقة الفلسطينيين، ولا يمنحهم دوراً حقيقياً في تحديد مستقبلهم السياسي والأمني، فإن “مجلس السلام” المقترح يصبح قانونياً نوعاً من الإدارة القسرية، وبالتالي استمراراً للاحتلال.

ومن الناحية القانونية البحتة، لا يجوز تعليق حق تقرير المصير أو تأجيله أو ربطه بأي شروط أمنية أو سياسية. وهذا المبدأ نصّت عليه محاكم دولية عدة، وجرى التأكيد عليه في قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو ركن أساسي في القانون الدولي لحقوق الإنسان. لذلك، فإن أي مبادرة تجعل تقرير المصير هدفاً مؤجلاً إلى حين استيفاء شروط أمنية تضعها قوة الاحتلال أو واشنطن أو مجلس الأمن، إنما تتعارض مباشرة مع القانون الدولي. فالشعب الفلسطيني ليس مطالباً بأن يثبت “جاهزيته” للحصول على حريته، ولا أن يقدم ضمانات أمنية مسبقة للاحتلال، ولا أن يقبل بإدارة مفروضة عليه بحجة منع الفوضى أو دعم الاستقرار.

من الناحية العملية، يعترف قرار مجلس الإمن، ربما بغير قصد، بأن الاحتلال ما زال قائماً. إذ لو كانت غزة غير محتلة، لما احتاجت إلى “مجلس سلام” يعمل تحت سقف القوة القائمة بالاحتلال، ولا إلى ترتيبات أمنية تديرها إسرائيل أو تشرف عليها. وما دام الاحتلال قائماً، فإن القوة المحتلة تبقى ملزمة بشكل كامل باتفاقيات جنيف، وبمسؤوليتها القانونية عن حماية المدنيين، وبواجبها في عدم نقل سكان أو فرض ترتيبات سياسية قسرية عليهم. وهذه النقطة تكشف التناقض البنيوي في القرار، فهو من جهة لا ينهي الاحتلال، ومن جهة أخرى يسعى إلى توزيع أعبائه الأمنية على أطراف أخرى مع الحفاظ على اليد العليا لإسرائيل.

في السياق السياسي الأوسع، يبدو القرار محاولة لتدويل الإدارة دون تدويل الحل. فالدول المتورطة في صياغة القرارلا تريد الدخول في مواجهة مباشرة مع حقيقة أن الاحتلال هو المصدر الأساسي لكل الأزمات الأمنية والإنسانية في غزة، ولا ترغب في الضغط الجاد لإنهائه. لذلك، يتم طرح حلول إدارية على حساب الحلول السياسية، وحلول مؤقتة على حساب الحقوق الدائمة. وفي الوقت ذاته، يتجاهل القرار أن أي ترتيبات لا تمنح الفلسطينيين السيطرة الفعلية على حدودهم ومياههم ومجالهم الجوي وسجلهم السكاني وأمنهم الداخلي لا يمكن أن تُبنى عليها سيادة حقيقية. فالسيادة ليست نصوصاً في قرار دولي، بل هي سيطرة فعلية على الأرض.

وبالنظر إلى السياق الإقليمي والدولي في نوفمبر 2025، من الواضح أن هناك محاولة متجددة لفرض نموذج شبيه بالوصاية الدولية، ولكن دون تسميتها بذلك، وبما يتماشى مع الرؤية الأمريكية – الإسرائيلية التي ترى أن الأمن يجب أن يكون شرطاً مسبقاً لأي تقدم سياسي. هذه الرؤية تتجاهل تاريخاً طويلاً من التجارب الفاشلة التي حاولت فيها القوى العظمى إدارة شؤون الشعوب بالقوة أو بالنيابة، من كوسوفو إلى العراق، متناسية أن الاستقرار الدائم لا يتحقق إلا عندما يصبح الشعب نفسه هو صاحب القرار في إدارة شؤونه.

بذلك، يمكن القول إن القرارليس مساراً لإنهاء الاحتلال، بل مسار لإعادة هيكلته، ومنحه شرعية إضافية عبر غطاء دولي لا يملك أصلاً سلطة إلغاء الحقوق الأساسية للشعوب. وما لم يكن هناك انسحاب كامل وغير مشروط من غزة، فإن الوضع القانوني سيبقى كما هو: أرض محتلة، وشعب له حق ثابت وغير قابل للتقادم في تقرير مصيره، وقوة احتلال تتحمل المسؤولية الكاملة أمام القانون الدولي، مهما حاولت تغيير شكل سيطرتها أو توزيعها أو تغليفها بمسميات جديدة.