"سدي تيمان"... الوجه الحقيقي للاحتلال بلا أقنعة

نوفمبر 8, 2025 - 09:12
"سدي تيمان"... الوجه الحقيقي للاحتلال بلا أقنعة

أمين الحاج

في قلب صحراء النقب، يقف معسكر الاعتقال "سدي تيمان" شاهدا على واحدة من أبشع صور الانحدار الأخلاقي والانفلات القانوني في تاريخ الاحتلال، هذا المعسكر الذي تحول- منذ العدوان على غزة- الى مركز اعتقال جماعي للفلسطينيين، لم يعد مجرد موقع عسكري مغلق، بل صار رمزا لعقيدة كاملة تقوم على التعذيب الممنهج ونزع الانسانية، لكن ما يثير السخرية ان الجنود الذين ظهروا يعذبون الأسرى خرجوا للمطالبة بـ"العدالة"، وبتعويضات نتيجة تعرضهم لـ"ضرر نفسي" تسببت به المقاطع التي فضحت جرائمهم أمام العالم، قالوا ضمنا؛ لقد كنا- يومها- أنتم، وعليكم أن تكونوا- اليوم– نحن!

 الفضيحة التي كشفتها تقارير إعلامية دولية، لم تقتصر على تفاصيل التعذيب والاعتداء الجنسي، بل ما هو أعمق؛ انهيار المنظومة الأخلاقية التي يفترض ان تضبط سلوك جيش الاحتلال، حيث سمحت للجنود التعامل مع الأسرى ككائنات غير بشرية، بلا حقوق، لم يدركوا انهم حين جُردوا من القيود الاخلاقية، جُردوا من إنسانيتهم، وتحولوا الى كائنات متوحشة، وجرائمهم الى مرآة عاكسة لمجتمع يعيش أزمة ضمير، يتحدث عن "الضرر النفسي" لجلاد، بينما يدفن آلام مئات الضحايا تحت ركام الصمت، فضلا عن مئات أخرى لا سبيل لسماع شهاداتهم.

 ما حدث لم يكن مجرد حوادث استثنائية، بل نتيجة طبيعية لثقافة تغذيها عقيدة أمنية، تجعل الفلسطيني هدفا أمنيا دائما، ووجوده تهديدا يبرر كل شيء، التعذيب والإذلال، هذا التفكير الممتد من رأس الهرم إلى أصغر جندي في الميدان، هو ما جعل الانتهاك ممارسة عادية، لا تجاوزا فرديا، لذلك حين يطالب الجناة بالتعويض، فهم لا يتمردون على هذه المنظومة، بل يعبرون عنها، لانهم تعلموا ان العدالة لا تقاس بالحق والباطل، بل بالانتماء والهوية.

 هذه القضية تكشف ايضا فشلا قانونيا، تنظيم محاكمات صورية، وعقوبات رمزية لعدد محدود من الجناة، في رسالة صريحة بان الافلات من العقاب سياسة لا استثناء، هناك يجري البحث عمن سَرّب، لا في تفاصيل ما سُرّب، ما يفتح الباب امام استمرار ذلك وتكراره، مقوضا كل ادعاء بإمكانية التعايش بين الاحتلال والعدالة. 

 دوليا، ردود الفعل الخجولة لا تليق بحجم الجريمة، او عالم يتغنى بالقيم الانسانية، فالمقاطع نقلت للعالم أدلة دامغة لا يمكن انكارها، او تجاوزها، او الصمت إزاءها، ومن الضروري اعادة تعريف الموقف من الاحتلال، ليس كدولة خارجة على القانون فحسب، بل كمنظومة استعمارية تنتج الجريمة كوظيفة مستدامة، ومواجهة هذا الواقع لا تكون بالإدانة اللفظية، بل بخلق تحالفات قانونية وحقوقية واقتصادية تضيق هامش الافلات من العقاب.

 فلسطينيا، هذه الجرائم وغيرها بمثابة اختبار وطني جديد؛ كيف يمكن تحويل الألم الى فعل سياسي وحقوقي منظم؟ لا مجرد حالة غضب عابرة، تبدأ بتوثيق كل شهادة وكل انتهاك لبناء ملف وطني شامل يقود نحو المحاكم الدولية، ثم الحاجة الى برامج التأهيل النفسي والجسدي للأسرى المحررين، ليصبحوا شهودا على جرائم يجب ان لا تنسى، تلاحق الجلادين لعقود.

 "سدي تيمان" لم يفضح الجنود وحدهم، بل فضح بنية كاملة تقوم على العنف والتمييز، فالجنود الذين تضرروا نفسيا بعد ان رأوا وجوههم، كانوا كمن رأى حقيقته للمرة الأولى، في لحظة انكشفت فيها وحشيته أمام نفسه والعالم، فكانت بداية انكسار الرواية التي طالما حاول الاحتلال تغليفها بشعارات "الأخلاق"، لكن الحقيقة ببساطة، ان جيش الاحتلال لا يعاني من "ضرر نفسي"، بل من فراغ اخلاقي مزمن، وسيبقى - مهما حاولوا طمسه- اسما محفورا في الذاكرة، ومرآة تعكس الوجه الحقيقي للاحتلال؛ وحشية بلا حد، وعدالة مشوهة.