قرن وثمانية أعوام على وعد بلفور والجريمة مستمرة ..!
د. عبد الرحيم جاموس
د. عبد الرحيم جاموس
في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر 2025، حلت الذكرى الثامنة بعد المئة لوعد بلفور المشؤوم، والوطن الفلسطيني ما يزال ينزف، وشعبه في غزة والضفة الغربية والقدس يعيش أفظع فصول النكبة المستمرة، تحت نار عدوان إسرائيلي متواصل منذ أكثر من عام، تجاوز كل حدود الإبادة والتدمير والاقتلاع، وسط عجزٍ دولي مريب وصمتٍ أخلاقي يعكس اختلال ميزان العدالة في هذا العالم الذي يكيل بمكيالين.
من كامبل بانرمان إلى بلفور، ومن لندن إلى واشنطن، تمتد خيوط السياسة الاستعمارية ذاتها: سياسةٌ أنجبت الكيان الصهيوني كقاعدة متقدمة للمشروع الغربي في قلب المنطقة العربية. وعد بلفور لم يكن مجرّد تصريح سياسي، بل كان جريمة قانونية وأخلاقية— وعد من لا يملك لمن لا يستحق— مهّد الطريق لولادة أكبر مأساة إنسانية في القرن العشرين، وما تزال فصولها تتكرر حتى اليوم في غزة، حيث تُرتكب جرائم حرب وإبادة وتطهير عرقي في وضح النهار.
واليوم، وبعد مرور قرن وثمانية أعوام على تلك الجريمة، تُعلن بريطانيا اعترافها بالدولة الفلسطينية. خطوةٌ متأخرةٌ جداً، لكنها ذات أهمية سياسية وأخلاقية وقانونية لا يمكن تجاهلها. فهي تمثل من حيث الجوهر إقراراً ضمنياً بالخطأ التاريخي الذي ارتكبته بريطانيا بحق الشعب الفلسطيني، واعترافاً بمسؤوليتها عن الكارثة التي نشأت عن وعدها المشؤوم وسياسة انتدابها التي سلّمت فلسطين إلى العصابات الصهيونية. لكنّ هذا الاعتراف يبقى ناقصاً ما لم يُترجم إلى اعتذار رسمي وتعويض عملي ودعم حقيقي لقيام الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وتنفيذ القرار (194) الخاص بعودة اللاجئين إلى ديارهم.
إن اعتراف بريطانيا بالدولة الفلسطينية لا يُسقط مسؤوليتها التاريخية، بل يحمّلها التزاماً مضاعفاً بإصلاح ما أفسدته سياستها الاستعمارية. إنها مدعوةٌ اليوم لتكفيرٍ حقيقي عن خطيئتها، لا عبر الأقوال بل بالأفعال، من خلال الضغط على الكيان الصهيوني لوقف عدوانه، وإنهاء احتلاله، واحترام قرارات الشرعية الدولية التي ظلّ يستهزئ بها على مدى سبعة وسبعين عاماً.
إن استمرار العدوان الإسرائيلي والدعم الأمريكي والبريطاني المفتوح له، يُظهر أن النكبة الفلسطينية ليست حدثاً من الماضي، بل جريمة متجددة تُرتكب كل يوم، في ظل تواطؤ دولي وصمت المؤسسات التي يفترض بها أن تحمي القانون والعدالة وحقوق الإنسان. ولهذا، فإن من واجب دولة فلسطين، ومعها الشعوب الحيّة في العالم، التحرك قضائياً وسياسياً لمقاضاة بريطانيا على وعد بلفور وما ترتب عليه، ومحاسبة الكيان الصهيوني على جرائمه ضد الإنسانية.
لقد آن الأوان لأن يُدرك المجتمع الدولي أن لا سلام ولا استقرار في الشرق الأوسط دون تحقيق العدالة التاريخية للشعب الفلسطيني، المتمثلة في إنهاء الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعودة اللاجئين إلى وطنهم. كما أن مقاومة الاحتلال بكافة أشكالها تبقى حقاً مشروعاً كفلته الشرائع السماوية والقوانين الدولية، طالما ظلّ الاحتلال جاثماً على الأرض الفلسطينية.
وستبقى فلسطين— برغم الجراح والدمار— تنبض بالحياة والكرامة، تصرخ في وجه العالم بأن حقها لا يسقط بالتقادم، وأن وعد بلفور سيظل وصمة عار في جبين من صنعوه ورعوه.
إن الله يمهل ولا يهمل، ولن يضيع حقٌّ وراءه شعبٌ حيٌّ ومطالب.





