إسرائيل تستهدف الجيش المصري من السودان خاصرة مصر الرخوة

نوفمبر 3, 2025 - 09:39
إسرائيل تستهدف الجيش المصري من السودان خاصرة مصر الرخوة

نبهان خريشة

رغم مرور أكثر من خمسة وأربعين عاماً على توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، ما زالت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تنظر إلى الجيش المصري باعتباره التهديد العربي الأخطر المحتمل على المدى البعيد. فإسرائيل تدرك أن مصر، برغم انشغالها الداخلي وتغير أولوياتها الإقليمية، تظل الدولة العربية الوحيدة التي تمتلك جيشاً نظامياً ضخماً، يتمتع بتقاليد عسكرية عريقة، وقاعدة تسليحية وبشرية قادرة على التحول السريع من الدفاع إلى الهجوم إن اقتضت الظروف. إن ما يقلق إسرائيل ليس الحرب المباشرة، بل احتمال استعادة مصر دورها الإقليمي والعسكري كقوة قائدة للعالم العربي، خاصة في ظل التغيرات الجيوسياسية التي تشهدها المنطقة. فهي ترى أن أي نهضة عسكرية أو تكنولوجية في مصر قد تعيد ميزان القوى التقليدي في المنطقة، وتضع حداً لتفوقها العسكري المطلق الذي حافظت عليه منذ اتفاقية كامب ديفيد.

من هنا تعمل إسرائيل بطرق غير مباشرة على إضعاف القوة المصرية، ليس عبر المواجهة العسكرية، بل من خلال أدوات ناعمة: التأثير في دوائر القرار الأمريكي والأوروبي لتقييد نوعية التسليح الموجه لمصر، وتشويه صورة الجيش المصري في الإعلام الغربي والعربي، إضافة إلى تغذية الاضطرابات الإقليمية في محيط مصر —خاصة في السودان وليبيا وغزة— لخلق بيئة استراتيجية تشتّت قدرات الجيش وتستهلك موارده في ملفات أمنية لا تنتهي. تخشى إسرائيل أن يتحول الجيش المصري مجدداً إلى قوة ردع حقيقية قادرة على كبح طموحاتها التوسعية في البحر الأحمر أو سيناء أو حتى في الملف الفلسطيني. كما يقلقها أن امتلاك مصر لخبرات متقدمة في التصنيع العسكري والطائرات بدون طيار والأنظمة الدفاعية الحديثة، قد يعني انتهاء عصر التفوق الإسرائيلي المطلق في السماء وعلى الأرض.

وفي خضم الضباب الذي يلف الحرب الأهلية السودانية، تبرز معطيات وخطوط عريضة تشير إلى تدخلات خارجية تهدف إلى إعادة تشكيل خريطة القوى في المنطقة. أحد أكثر هذه التدخلات غموضاً وإثارة للقلق هو الدور الإسرائيلي في دعم قوات الدعم السريع، والذي لا يمكن فهم أبعاده بمعزل عن حسابات الصراع الإقليمي، وبالتحديد استهداف مصر، العمق الاستراتيجي العربي والأفريقي. إن النظر إلى السودان ليس كمسرح لصراع داخلي فحسب، بل كرقعة شطرنج جيوسياسية كبرى، يكشف عن هدف إسرائيلي عميق: تفكيك الأمن القومي المصري عبر تطويقه من جميع جوانبه الحيوية، مستغلاً "الخاصرات الرخوة" لمصر في ليبيا الغرب، وغزة الشرق، والسودان الجنوب.

إن الموقع الجيواستراتيجي للسودان لا يشكل مجرد عمق لمصر، بل هو شريان حياتها. فالنيل، شريان الحياة لمائة مليون مصري، يمر من هناك، وأي سيطرة لقوة معادية أو غير مستقرة على مقدرات مياه النيل تمثل تهديداً وجودياً لمصر. كما أن الحدود الممتدة بين البلدين كانت تاريخياً مصدراً للقلق الأمني، من تهريب الأسلحة إلى العناصر المسلحة. لذلك، كانت القاهرة دوماً حريصة على وجود حكومة مركزية مستقرة في الخرطوم، قادرة على ضمان أمن الحدود والاتفاقيات المائية. لكن ما يحدث اليوم، مع دعم جهات خارجية لقوات الدعم السريع، يهدف إلى قلب هذه المعادلة. فإذا ما سيطرت هذه القوات، المدعومة من جهات تتعارض مصالحها مع مصر، على الحكم في السودان، فسوف تتحول هذه الحدود من منطقة أمنية مشتركة إلى بوابة مفتوحة للتهديدات. سيكون بمقدور هذه القوات استخدام ورقة المياه كسلاح للضغط السياسي، أو تغذية النزعات الانفصالية، أو حتى السماح بتمرير عناصر مسلحة إلى الأراضي المصرية، مما يربك الجبهة الداخلية لمصر ويستنزف مواردها.

هذا الاستنزاف لا يأتي في فراغ، بل هو جزء من استراتيجية تطويق أوسع تشهدها مصر من جميع الاتجاهات. ففي الغرب، تظهر ليبيا ككابوس أمني مستمر. مع وجود ميليشيات مسلحة ومليشيات أجنبية تتقاذف البلاد، أصبحت الحدود الغربية لمصر مصدر قلق دائم. تدفق الأسلحة، والعناصر المتطرفة، والجماعات الإجرامية عبر هذه الحدود الطويلة والمفتوحة يشكل تحدياً يومياً للأجهزة الأمنية المصرية. وفي الشرق، يقف قطاع غزة كحالة صراع دائم. على الرغم من الهدوء النسبي الذي تفرضه مصر عبر الدبلوماسية، فإن الحرب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة لعامين، شكلت وتشكل تهديداً على الأمن القومي المصري، ما حدى بمصر للدفع بوحدات عسكرية إضافية الى سيناء خلافا لاتفاقية السلام المبرمة مع اسرائيل، وهو ما قد يعطي المبرر لإسرائيل لإستهداف مصر عسكرياً. ومع سيطرة قوات الدعم السريع على اقليم دارفور ومدينة الفاشر المدعوم اسرائيليا واماراتيا (بالخفاء) فإن مصر أصبحت محاصرة بشكل كامل: تمرد مسلح وعدم استقرار في الغرب، تهديد متجدد من الشرق، وحرب أهلية وفوضى في الجنوب. هذا هو السيناريو الكابوسي الذي تريده إسرائيل، أو على الأقل، تستفيد من صناعته جهات أخرى.

إن الهدف الإسرائيلي من هذا التطويق متعدد المستويات. أولاً، فهو يهدف إلى إضعاف الجيش المصري، القوة النظامية الأكبر في المنطقة، ليس عبر مواجهة مباشرة، بل عبر استنزافه في معارك متعددة الجبهات. عندما ينشغل الجيش المصري في تأمين حدوده الغربية مع ليبيا، ومراقبة حدوده الشرقية مع غزة وإسرائيل، وحماية حدوده الجنوبية مع السودان، فإن قدرته على التحرك الاستراتيجي، أو مشاريع إعادة البناء العسكري، أو حتى لعب دور إقليمي فاعل، تتقلص بشكل كبير. ثانياً، تريد إسرائيل تحويل مصر من لاعب إقليمي مؤثر إلى دولة منشغلة بأزماتها الداخلية والأمنية.

مصر القوية، المستقرة، ذات الموقف المستقل، تشكل عقبة أمام مشروع الهيمنة الإسرائيلي في المنطقة. أما مصر الضعيفة، المحاصرة بالمشاكل، فستكون أكثر انشغالاً ببقائها وأقل قدرة على دعم القضية الفلسطينية أو معارضة السياسات الإسرائيلية في المنطقة. ثالثاً، هناك بعد اقتصادي حيوي. فمشاريع مصر التنموية العملاقة، سواء في قناة السويس أو المنطقة الاقتصادية، أو حتى مشروع العاصمة الإدارية الجديدة، تحتاج إلى بيئة إقليمية مستقرة وآمنة. تفجير الأوضاع في السودان وليبيا يهدد هذه المشاريع، ويقلل من جاذبية مصر للاستثمار، ويصرف مواردها من التنمية إلى الإنفاق الأمني والعسكري.

لا يمكن فصل دعم إسرائيل (الخفي) لقوات الدعم السريع عن هذه الصورة الأوسع. فمن خلال دعم قوة ليست دولة، تفتقر للشرعية الدولية وتعمل بشكل ميليشياوي، تسعى إسرائيل إلى خلق كيان حليف في الجنوب، يعيد إنتاج نموذج "الدولة الفاشلة" الذي رأيناه في ليبيا. هذا الكيان سيكون ضعيفاً، معتمداً على الدعم الخارجي، وسهل الانقياد لخدمة أجندات أجنبية، وأهمها إبقاء مصر في حالة من الضعف والانشغال. إنها استراتيجية "الفوضى الخلاقة" بامتياز، حيث يتم استخدام التناقضات الداخلية والصراعات العرقية والقبلية كأدوات لتحقيق أهداف جيوسياسية كبرى.

إن الحرب في السودان ليست مجرد مأساة إنسانية فقط، بل هي معركة مصيرية ستحدد مستقبل المنطقة لعقود مقبلة. التدخل الإسرائيلي، عبر دعمه قوات الدعم السريع، محاولة مدروسة لطعن مصر في خاصرتها الرخوة الجنوبية، لإكمال عملية التطويق التي بدأت من ليبيا في الغرب وغزة في الشرق. إنها حرب بالوكالة تهدف إلى تحويل مصر من قلعة تقف بقوة إلى حصن محاصر، منهك، ومنشغل ببقائه. مواجهة هذا التحدي تتطلب من مصر، ليس فقط تعزيز قدراتها الأمنية على حدودها، بل وخوض معركة دبلوماسية وسياسية شرسة لإفشال هذا المخطط، والعمل مع حلفائها لإيجاد حل سياسي شامل في السودان يضمن استقراره وسيادته، لأن استقرار السودان هو، في النهاية، ضمانة لأمن مصر القومي واستمرارها كقوة إقليمية رئيسية.