"دور المدارس الفلسطينية في شفاء جراح الطفولة: دعم نفسي للأجيال المتضررة من الحرب"
بقلم الدكتورة سماح جبر مديرة وحدة الصحة النفسية في وزارة الصحة الفلسطينية
في أحد أيام الصيف الحارّة، وبينما كان أحمد البالغ من العمر تسع سنوات يلعب مع أصدقائه في باحة منزله في جنين، سمع صوتًا مرعبًا يقترب شيئًا فشيئًا. كان صوت جرافة ضخمة تتجه نحو منزله، ولم تمض دقائق حتى كان بيته، الذي لطالما كان مأواه الآمن، تحت ركام الأنقاض. شاهد أحمد بأم عينيه كيف انهار كل شيء في لحظة، البيت الذي وُلد فيه، وغرفته التي كان يشعر فيها بالأمان. في تلك اللحظة، تغير عالم أحمد بشكل جذري، وأصبح الحزن والقلق رفيقيه الدائمين.
مع نهاية العطلة الصيفية وافتتاح المدارس، كان أحمد يشعر بفتور شديد تجاه العودة إلى المدرسة. لم يعد لديه نفس الحماس الذي كان يشعر به في الأعوام السابقة. كانت أفكاره مشوشة، وكان يفتقد إلى الشعور بالأمان. والسؤال هنا الى اي حد يمكن ان تشكل المدرسه ملجأ نفسيا للاطفال مثل أحمد، هل يمكن ملاحظة حالتهم النفسيه وتقديم الدعم اللازم لهم لمساعدتهم على تجاوز الضغوط التي يمرون بها؟
قصة أحمد ليست فريدة من نوعها، بل هي واحدة من آلاف القصص التي يعيشها الأطفال الفلسطينيون في ظل الاحتلال الإسرائيلي. العنف المتواصل، هدم المنازل، الاعتقالات، الفقدان الصادم، وأفعال الإبادة في غزة، كلها عوامل تؤدي إلى أزمات نفسية عميقة لدى الأطفال والمراهقين في فلسطين. هؤلاء الأطفال يشهدون مشاهد العنف بشكل متكرر، ويعيشون تحت تهديد دائم مما يؤثر بشكل مباشر على صحتهم النفسية وتطورهم العقلي احيانا.
إن الأطفال الذين ي يشاهدون الاحداث العنيفة و يفقدون احد افراد العائله أو يفقدون منازلهم يكونون أكثر عرضة للإصابة باضطرابات القلق، والاكتئاب، واضطرابات الصدمة. ويصبح الأمر أكثر تعقيدًا عندما نفكر في العواقب طويلة الأمد لهذه التجارب المؤلمة، حيث يمكن أن تؤثر هذه الاضطرابات على قدرتهم على التعلم، وعلى علاقاتهم الاجتماعية، وحتى على تطورهم الشخصي والعاطفي مستقبلا.
في هذا السياق، ممكن أن تلعب المدارس دورًا حيويًا في تعزيز الصحة النفسية للأطفال والمراهقين، إذ توفر لهم بيئة آمنة ومجتمعًا داعمًا يمكنهم من خلاله التعبير عن مشاعرهم ومعالجة صدماتهم النفسية.
دور المدارس الفلسطينية في تعزيز الصحة النفسية للأطفال والمراهقين المتضررين من الحرب لا يقتصر على التعليم بل يمتد الى كل المجالات التاليه:
1. المدارس كملاذ آمن:
بالنسبة للأطفال الذين يعيشون في مناطق النزاع، تصبح المدرسة المكان الذي يشعرون فيه بالأمان. توفر المدارس بيئة مستقرة تساعد الأطفال على الشعور بالروتين والانضباط، مما يخفف من حدة التوتر والاضطراب الذي قد يشعرون به في حياتهم اليومية. هذا الاستقرار النفسي أساسي للتغلب على آثار الصدمة التي قد يكونوا قد تعرضوا لها. من الضروري أن تتيح المدارس مجالا للحديث عن الشأن العام وأن تقدم الدعم والمواساه لكل طفل متضرر من العنف السياسي.
2. البرامج العلاجية والدعم النفسي:
العديد من المدارس في فلسطين بدأت بتطبيق برامج دعم نفسي مخصصة للأطفال المتضررين من الحرب. تشمل هذه البرامج جلسات استشارية فردية وجماعية، حيث يمكن للأطفال التحدث عن تجاربهم الصعبة مع المرشدين النفسيين ومعلمين مدربين على التعامل مع الصدمات. هذه الجلسات تساعد الأطفال على التعبير عن مشاعرهم بشكل صحي وتعلم استراتيجيات التأقلم مع الصعوبات النفسية.
3. الأنشطة التربوية والفنية:
الفن، الموسيقى، والمسرح هي أدوات قوية للتعبير عن المشاعر والتخفيف من حدة الصدمات النفسية. من خلال الأنشطة الفنية، يمكن للأطفال التعبير عن مخاوفهم وأحلامهم بشكل إبداعي، مما يساعدهم على التعامل مع مشاعرهم المكبوتة. في المدارس الفلسطينية، تُعتبر هذه الأنشطة جزءًا لا يتجزأ من البرنامج التعليمي، وهي تلعب دورًا هامًا في تعزيز الصحة النفسية للأطفال. بالامكان الاستزاده من التعبير الفني من خلال نشاطات خارج منهجية ومن الضروري إتاحة الفرصه للاطفال بطرح افكارهم و الحديث عن اعمالهم الفنيه وماذا تعني بالنسبه لهم.
4. بناء العلاقات الاجتماعية:
في المدرسة، يتمكن الأطفال من بناء علاقات إيجابية مع أقرانهم ومعلميهم. هذه العلاقات تساعدهم على الشعور بالدعم والانتماء، وهو ما يحتاجونه بشدة بعد تعرضهم لأحداث صادمة. قد ينعكس العنف السياسي على شكل ظاهره التنمر في المدرسة، ومن الضروري رصد هذه الظاهره والتصدي لها أينما نشأت. الأصدقاء والمعلمون يمكن أن يكونوا مصدرًا هامًا للدعم العاطفي، ويساعدون في تقليل شعور العزلة والخوف.
5. التوعية والتعليم حول الصحة النفسية:
إن تقديم دروس ومناهج تتعلق بالصحة النفسية داخل المدارس يمكن أن يساعد في توعية الأطفال حول أهمية الاعتناء بصحتهم النفسية. فهم كيفية التعامل مع التوتر والقلق، وكيفية طلب المساعدة عند الحاجة، هذه مهارات حياتية يمكن أن تساهم في تحسين الصحة النفسية بشكل عام.
توصيات عملية للمدارس الفلسطينية
1. تعزيز برامج الدعم النفسي:
يجب على المدارس زيادة عدد المرشدين النفسيين وتوسيع البرامج الموجهة للتعرف على ودعم الأطفال المتضررين من العنف السياسي. كما يجب تقديم التدريب المستمر للمعلمين حول كيفية التعرف على علامات الصدمة النفسية والاضطرابات النفسيه الاخرى الشائعه بين طلاب المدارس وكيفية تقديم الدعم الأولي للأطفال.
2. تكثيف الأنشطة الفنية والتعبيريه:
ينبغي على المدارس تعزيز الأنشطة الفنية والإبداعية كجزء أساسي من المنهج الدراسي، وذلك لمساعدة الأطفال على التعبير عن أنفسهم ومعالجة تجاربهم الصعبة.
3. توفير بيئة تعليمية مرنة:
يجب أن تكون المدارس مرنة في استيعاب احتياجات الأطفال الذين يعانون نفسيا، وذلك من خلال عمل مواءمات دراسيه مناسبه لهم وتخصيص أوقات للراحة، وتقليل الضغوط الأكاديمية عند الحاجة، وتقديم الدعم الشخصي للطلاب وتوجيههم الى اماكن علاج متخصصه في حال كان ذلك ضروريا.
4. الشراكة مع وزاره الصحة والمجتمع المحلي والمنظمات غير الحكومية:
يمكن للمدارس التعاون مع المنظمات الحكومية والمتخصصين في الصحة النفسية لتوفير برامج علاجية متخصصة ودعم إضافي للأطفال المحتاجين.
5. تشجيع التواصل مع الأهل:
يجب على المدارس العمل بشكل وثيق مع أولياء الأمور لتقديم الدعم النفسي ليس فقط للأطفال، بل لتوجيه العائلات الى الخدمات المتخصصة أيضًا، إذ إن الاستقرار الأسري يلعب دورًا كبيرًا في تعزيز صحة الأطفال النفسية.
واخيرا، ومع اقتراب افتتاح المدارس ونهاية العطلة الصيفية، تتحمل المدارس الفلسطينية عبئا كبيرا في دعم الصحة النفسية للأطفال والمراهقين الذين تأثروا بالحرب. من خلال توفير بيئة آمنة، وتعزيز برامج الدعم النفسي، وتشجيع الأنشطة التعبيرية، يمكن للمدارس أن تكون حاضنة للاستقرار النفسي والتعافي للأطفال الفلسطينيين، مما يمهد الطريق نحو مستقبل أكثر أمانًا وصحة لابنائنا الطلاب.