من الدولة العميقة إلى النظام العالمي الجديد النفوذ وإعادة تشكيل الشرق الأوسط
الاء عليان
من الدولة العميقة إلى النظام العالمي الجديد النفوذ وإعادة تشكيل الشرق الأوسط
الدولة العميقة (Deep State)
مفهوم الدولة العميقة (أو دولة الظل/الحكومة الخفية) يشير في جوهره إلى وجود شبكة أو كيان سري أو غير منتخب يعمل داخل أو بجوار المؤسسات الحكومية الرسمية، ويمارس نفوذاً هائلاً على صنع القرار في الدولة، بغض النظر عن القيادة السياسية المنتخبة.
اهم النقاط حول مفهومها:
* الأصل: ظهر المصطلح في البداية في تركيا ("ديرين دولت" - Derin Devlet) لوصف تحالف سري مزعوم بين عناصر من الجيش، الأمن، القضاء، والمافيا.
* المكونات المحتملة: يُعتقد أن هذه الشبكات قد تشمل مسؤولين كبارًا في الأجهزة الأمنية والمخابراتية، بيروقراطيين متنفذين، قادة ماليين واقتصاديين، وجماعات ضغط (لوبيات).
* الهدف: الحفاظ على مصالحها الخاصة والاستراتيجية طويلة الأمد، والتي قد تتعارض مع الأجندة المعلنة للحكومات المنتخبة.
* آلية العمل:
• التأثير السياسي: ممارسة الضغط السياسي، التمويل السري للحملات الانتخابية، وتمرير القوانين والسياسات التي تخدم مصالحها.
• السيطرة على المعلومات: استخدام وسائل الإعلام لنشر روايات محددة، وحجب أو تزوير المعلومات الحساسة.
الدولة العميقة العالمية (Global Deep State) ونظريات المؤامرة
عندما يُستخدم مصطلح "الدولة العميقة العالمية"، فإنه يدخل غالباً في نطاق نظريات المؤامرة التي تفترض أن هذه الشبكات ليست محلية أو مقتصرة على دولة واحدة، بل هي تحالف عالمي متكامل من النخب السرية (قد يُشار إليها أحياناً بأسماء مثل "النظام العالمي الجديد" أو "حكومة الظل")، وتهدف إلى:
1. التحكم بالقرار الدولي: إدارة الأحداث العالمية الكبرى (الحروب، الأوبئة، الأزمات الاقتصادية) لخدمة مصالحها.
2. خلق نظام عالمي موحد: يخدم مصالح النخب المالية والسياسية المهيمنة.
3. إضعاف الدول الوطنية: وجعلها خاضعة لإملاءات هذا الكيان العالمي الخفي.
علاقة المفهوم بما يحدث في العالم اليوم
تربط نظريات الدولة العميقة العالمية الكثير من الأحداث الجارية بتخطيط مسبق من هذا الكيان الخفي. يُشار إليها عادةً لتفسير:
* التوترات الجيوسياسية والصراعات: (مثل الحروب الكبرى والإقليمية) كأدوات لإعادة تشكيل الخريطة العالمية وتحقيق مكاسب اقتصادية للنخب (الصناعات العسكرية، الطاقة).
* الأزمات الاقتصادية: (مثل التضخم أو الانهيارات المالية) كإجراءات متعمدة لإفقار العامة وزيادة ثروة القلة المسيطرة على النظام المالي العالمي.
* السياسات البيئية والصحية الكبرى: (مثل سياسات المناخ أو التعامل مع الأوبئة) كغطاء لفرض قيود على الحريات الفردية وزيادة السيطرة الحكومية/الدولية.
* التطور التكنولوجي: (مثل الذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل) كوسائل لتعزيز المراقبة والتوجيه الفكري للجماهير.
من الضروري التفريق بين:
1. تحليل القوة والنفوذ المشروع: وهو اعتراف بوجود جماعات مصالح (لوبيات)، شركات عابرة للقارات، وتأثير مؤسسات دولية (مثل صندوق النقد الدولي، البنك الدولي) في صياغة السياسات. هذا نفوذ موجود وموثق.
2. نظرية المؤامرة العالمية: وهي افتراض وجود "قوة سرية وموحدة" تدير العالم في الخفاء عبر التلاعب المتعمد بكل حدث. لا يوجد دليل قاطع يدعم وجود هذا الكيان السري الموحد عالمياً.
يشهد العالم حالياً، وبشكل خاص منطقة الشرق الأوسط، تحولات عميقة وسريعة تشير إلى نهاية مرحلة وبداية نظام عالمي وإقليمي جديد.
أبرز هذه التغييرات على الصعيدين العالمي والشرق أوسطي:
أولاً: التحولات على الصعيد العالمي (النظام الدولي)
تتمثل التغيرات الكبرى في العالم بالانتقال من نظام أحادي القطبية (بقيادة الولايات المتحدة) إلى نظام متعدد الأقطاب، وتتسم هذه المرحلة بالصراع الاقتصادي والجيوسياسي.
1. التنافس الجيوسياسي وتراجع العولمة
* صعود الأقطاب الجديدة: يبرز صعود الصين كقوة اقتصادية وتكنولوجية منافسة، ومحاولات روسيا لتعزيز نفوذها، مما يخلق عالماً يتنافس فيه أكثر من قطب دولي.
* التخلي عن العولمة الليبرالية: تتراجع مبادئ العولمة التي دعت إلى حرية التجارة المطلقة. بدأت الدول الكبرى تتبنى سياسات الحماية الاقتصادية (Protectionism)، ورفع الرسوم الجمركية، والتركيز على أمن سلاسل الإمداد (خاصة في التكنولوجيا والمعادن النادرة) بدلاً من الكفاءة الاقتصادية وحدها.
* عسكرة الاقتصاد: أصبح الاقتصاد أداة للصراع؛ حيث يتم استخدام العقوبات الاقتصادية، والتحكم في التكنولوجيا، والاستثمار الاستراتيجي كوسائل للضغط السياسي والسيطرة.
2. الأزمات الاقتصادية وتحديات الطاقة
* التضخم والديون: يواجه الاقتصاد العالمي موجات تضخم غير مسبوقة مدفوعة جزئياً بالصراعات واضطرابات سلاسل الإمداد، مما يزيد من الضغوط المالية على البنوك المركزية والدول النامية.
* إعادة تشكيل أسواق الطاقة: أدت الحرب في أوكرانيا والتوترات في الشرق الأوسط إلى إعادة تشكيل تحالفات الطاقة. أوروبا تبتعد عن الغاز الروسي وتتجه إلى مصادر أخرى، مما يرفع تكاليف الطاقة عالميًا ويزيد من أهمية دول الخليج كبديل.
3. تأثير التكنولوجيا والسيادة الرقمية
* سباق التكنولوجيا: تستمر التكنولوجيا (الذكاء الاصطناعي، العملات الرقمية) في تغيير بنية الاقتصاد والمجتمع، وتصبح السيطرة على هذه التقنيات هدفاً استراتيجياً جديداً للدول الكبرى (السيادة التكنولوجية).
* العملات الرقمية: هناك سباق بين الدول (كالدولار واليورو) لإطلاق عملات رقمية للبنوك المركزية (CBDCs)، وهو ما يعكس محاولة للسيطرة على عالم العملات المشفرة والحفاظ على النفوذ المالي.
ثانياً: التحولات على الصعيد الإقليمي (الشرق الأوسط)
الشرق الأوسط هو البؤرة التي تتجسد فيها التحولات العالمية والإقليمية بشكل عنيف ومباشر، وقد عجلت به الصراعات الحالية.
1. الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كمحرك تغيير
* إعادة تمحور القضية الفلسطينية: بعد فترة من محاولة تهميشها لصالح قضايا التطبيع الإقليمي، عادت القضية الفلسطينية لتفرض نفسها كقضية مركزية وحاسمة للاستقرار الإقليمي والعالمي.
* انهيار المشاريع الإقليمية القديمة: أظهرت الأحداث أن التطبيع الثنائي دون حل عادل للقضية الفلسطينية لا يضمن استقرار المنطقة، مما قد يدفع بعض الدول الإقليمية إلى إعادة تقييم تحالفاتها وسياساتها.
* هندسة ما بعد الحرب: يجري الحديث عن "اليوم التالي" في غزة والضفة الغربية، مما يشير إلى محاولات دولية وإقليمية لفرض ترتيبات أمنية وسياسية جديدة قد تعيد رسم خريطة السيطرة والنفوذ.
2. إعادة ترتيب التحالفات الإقليمية
* التطبيع والوساطة: رغم التوترات، تبرز دول مثل قطر ومصر وتركيا كوسطاء محوريين في الأزمات، مما يعزز نفوذها الدبلوماسي. كما أن مسار التطبيع بين إسرائيل وبعض الدول العربية أصبح أكثر تعقيداً ورهناً بالتطورات في الأراضي الفلسطينية.
* التفاهمات الإيرانية السعودية: الاتفاق الذي جرى بوساطة صينية بين إيران والسعودية يمثل تحولاً نوعياً نحو تخفيف حدة الصراع الإقليمي المباشر، وتركيز الدول الإقليمية على المصالح المشتركة بدلاً من الاصطفاف خلف القوى الكبرى حصراً.
* صعود دور أفريقيا والقرن الأفريقي: لم يعد البحر الأحمر مجرد ممر تجاري، بل أصبح ساحة تنافس عسكري واستراتيجي بين القوى الإقليمية والعالمية (الولايات المتحدة، الصين، الإمارات، تركيا، روسيا)، مما يربط بشكل متزايد مصير الشرق الأوسط بأفريقيا.
3. تزايد حالة "عدم اليقين" العسكري والأمني
* سباق التسلح الإقليمي: من المتوقع أن تسعى دول المنطقة لتعزيز قدراتها الدفاعية الذاتية في ظل المشهد الإقليمي المضطرب والمتغير.
* امتداد النزاعات: هناك مخاوف متصاعدة من امتداد الصراعات إلى ساحات أخرى كجنوب لبنان أو سوريا أو اليمن، مما يزيد من صعوبة الخروج من دائرة العنف.
هذا يوضح أننا في لحظة تحول تاريخي تتسم بتآكل النظام القديم وولادة نظام جديد لم تتضح ملامحه النهائية بعد، حيث تتشابك الصراعات العسكرية والاقتصادية لتحديد خارطة النفوذ العالمية والإقليمية المستقبلية.
تشكل القضية الفلسطينية حالياً نقطة محورية للتحولات العالمية والإقليمية، وقد أعادت الصراعات الأخيرة في غزة صياغة مكانتها وتحدياتها ومستقبلها المحتمل.
التغييرات التي طرأت على القضية الفلسطينية:
أولاً: استعادة المكانة المركزية للقضية
بعد سنوات من محاولات تهميش القضية الفلسطينية عبر مسارات إقليمية أخرى (كالتطبيع)، أعادت الأحداث الأخيرة فرضها بقوة كقضية جوهرية للاستقرار العالمي والإقليمي.
* إفشال تهميش التطبيع: أثبتت الصراعات الأخيرة أن السلام الإقليمي، بما في ذلك أي اتفاقيات تطبيع مستقبلية، لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية.
* الوحدة الفلسطينية المؤقتة: ساهمت الأزمة في توحيد الفلسطينيين (ولو مؤقتاً) تحت وطأة العدوان، وأعادت الوعي بضرورة تجاوز الانقسام الداخلي (بين نهج المقاومة ونهج التسوية السياسية) لمواجهة مخططات تصفية القضية.
* كسر سردية الردع: أظهرت الأحداث أن القوة العسكرية وحدها لا تكفي لتحقيق الأمن، وأعادت الصراع إلى مربع "صراع الإرادات" وشرعية الوجود.
ثانياً: التحولات في المواقف الدولية والشعبية
شهدت المواقف الدولية تحولاً كبيراً، خصوصاً على المستوى الشعبي والمؤسساتي، وإن كان الموقف الحكومي الغربي الرسمي ما زال داعماً بشكل كبير لإسرائيل.
* حرب السردية والصورة: خسرت إسرائيل بشكل كبير "حرب الصورة والسردية" عالمياً. أدت التغطية الإعلامية المباشرة والمكثفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى زيادة الوعي بالواقع الفلسطيني بين الأجيال الجديدة.
* الشارع العالمي والاحتجاجات: اندلعت مظاهرات حاشدة وغير مسبوقة في كبرى العواصم الغربية والأمريكية، مما وضع الحكومات الغربية في موقف حرج ودفعها إلى التحدث عن ضرورة "حل الدولتين" ووقف إطلاق النار تحت الضغط الشعبي.
* الاعترافات الرمزية: بدأت بعض الدول (مثل إسبانيا والنرويج وأيرلندا) في الاعتراف رسمياً بدولة فلسطين، وهي خطوة رمزية لكنها ذات تأثير عميق لأنها تعيد مشروع الدولة الفلسطينية إلى الأجندة الدولية.
* تزايد التدخل الدولي والإقليمي: زاد انخراط قوى إقليمية ودولية (مثل قطر، تركيا، مصر، والولايات المتحدة) كوسيط وفاعل رئيسي في إدارة الأزمة، مما يعكس تشابك الأبعاد الدولية والإقليمية للقضية.
ثالثاً: التحديات المستقبلية والسيناريوهات
تقف القضية الفلسطينية الآن أمام مفترق طرق بين استثمار الزخم العالمي لخدمة المشروع الوطني أو الوقوع في فخ التبعية.
* سيناريوهات "اليوم التالي": تركز الرؤى الأمريكية والإسرائيلية على ترتيبات ما بعد الحرب في غزة، بما في ذلك الحديث عن "قوة استقرار دولية" أو "إدارة مدنية" للقطاع، وهو ما يهدف غالباً إلى تحويل غزة إلى "مشكلة إنسانية بحتة" وإبعادها عن أي أبعاد سياسية وأمنية شاملة.
* تعميق الضفة الغربية: تستغل إسرائيل الأجواء الأمنية المتوترة لتكثيف الاستيطان وعنف المستوطنين والاعتقالات في الضفة الغربية، مما يهدف لتقويض إمكانية إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
* التهديدات الوجودية: يؤدي الدمار الاقتصادي والاعتماد المفرط على المساعدات الإنسانية في غزة إلى خلق "اقتصاد اللا دولة"، مما يزيد من تحديات الصمود والبقاء للشعب الفلسطيني.
الاء عليان





